من مشكاة النبوة (9) عجب الله من صنيعكما
الحمد لله، وفق من شاء لمكارم الأخلاق، وهداهم لما فيه فلاحهم يوم التلاق، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الخلاق، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله، أفضل البشر على الإطلاق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان؛ أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فإن آثارها الطيبة تمتد إلى الآخرة في نعيم وخلود أبدي، وأنس سرمدي: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25].
عباد الرحمن؛ ما أجمل السيرة النبوية وأخبارها! وما أعظم دروسها وآثارها! وإليكم هذا الخبر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحق، ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا، والذي بعثك بالحق، ما عندي إلا ماء، فقال: « من يضيف هذا الليلة رحمه الله! » فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني، قال: فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فإذا أهوى ليأكل، فقومي إلى السراج حتى تطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: « قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة »؛ [أخرجه الشيخان، وهذا لفظ مسلم].
إخوة الإيمان؛ تعالَوا إلى بعض الوقفات مع هذا الخبر:
1- كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثابةً للمؤمنين عند حاجتهم وكربهم؛ فهذا الجائع المجهود توجه إلى رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولم يطل العرض، ولم يسهب في الشرح، وإنما عرض حاجته؛ قال الراوي: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني مجهود)؛ ليلقى التجاوب السريع والاهتمام التام بحاله، وقضاء حاجته.
2- ترى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدأ بنفسه في قضاء حاجة هذا المجهود؛ فأرسل إلى إحدى زوجاته يسألها طعامًا لضيفه، فلما لم يجد عندها أرسل إلى أخرى حتى أرسل إلى بيوته كلها، ولم يعرض على أصحابه إلا بعد أن استفرغ ما عنده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
لقد كان عليه الصلاة والسلام قدوةً بفعله قبل قوله، وكم لهذا من أثر في النفوس، وليس فعلُ الأنصاري بعده مع هذا الضيف إلا شاهدًا على ذلك.
3- حال الأنصاري مع ضيفه صورة ناصعة الوضاءة في الإيثار بالقليل؛ فقد آثر أن يبيت هو وزوجته وأطفاله جائعين؛ ليطعم ضيفًا مجهودًا لعله طوى ليالي جائعًا، ثم العجب من تلطفه بمشاعر ضيفه الذي لم يكن ليسيغ هذا الطعام، لو علم أنه يشبع ليجوع مضيفه، لقد أمر زوجته أن تقوم كأنها تصلح السراج فأطفأته؛ ليكون المكان مظلمًا، ثم ورى بمشهد تمثيلي أنهم يأكلون، حتى يهنأ الضيف بهذا الطعام القليل ويأكله بنفس هانئة، إنه مشهد عجيب، وهل أعظم من أن عجِبَ منه ربنا جل جلاله، وأنزل فيه قرآنًا يُتلى؟ ففي رواية البخاري: (فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « ضحك الله الليلة - أو عجب - من فعالكما »؛ فأنزل الله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]).
4- المشهد الرائع للأسرة وهي تتفاعل مع الموقف، وتوزع الأدوار وتتعاضد في إكرام الضيف على أتم صورة وأحسن حال، حسب الوسع والطاقة، فالزوجة تغالب عواطف الأمومة؛ لتجود بطعام صبيتها، وتؤثر على نفسها بطعامها، وتتبادل مع زوجها إتمام المشهد، وتبادل الأدوار في إكرام الضيف وإزالة حرجه من قلة الطعام، فكانت في شأنها كله عونًا لزوجها على طاعة الله تعالى، وإكرام ضيف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، وبما فيهما من العلم والحكمة، واستغفروا الله؛ إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
أما بعد:
فإن من الوقفات مع هذه القصة:
5- المعجزة النبوية الظاهرة؛ حيث ابتدأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصاري – وقيل: إنه أبو طلحة - بإخباره بعجب الله من صنيعهما مع ضيفهما الذي تم في ظلمة الليل، ولم يعلم به ضيفهما الذي يشاركهما، لقد كانت آية من الآيات والتي كان الصحابة يعايشونها بين فترة وأخرى، ﴿ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المدثر: 31].
6- حال بيوت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من القلة وكفاف العيش بحيث يطوف الطائف يسأل طعامًا لضيف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلا يجد إلا الماء، قد واسى الناس بنفسه وماله، ولم يجعل بيوته خزائن للترف، وجمع المال والتكثر من متاع الدنيا، رآه أصحابه أكرم الناس وأجود بالخير من الريح المرسلة، ويقسم الإبل بالمئين، ولم يروه يومًا استأثر عليهم بالمال، أو تخول دونهم متاعًا، أو آثر نفسه أو قرابته.
7- في إرسال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى بيوته كلها يسأل طعامًا لضيفه، فلا يجد ما يقتاته ذو كبد - مواساة لطيفة لهذا الرجل الجائع المجهود؛ فإذا رأى أن هذا حال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجع على نفسه بالرضا وعدم الجزع لِما هو فيه؛ فهذا إمامه وقدوته، وهذه حاله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وبعد عباد الله:
إنَّ الصلاةَ على النبي غنيمةٌ
مَن حازَها حاز الكرامةَ وامتلكْ
فُزْ بالصلاةِ على النبي مردِّدًا
صلَّى عليه اللهُ ما دارَ الفلَكْ
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|