الحمد لله الذي أتمَّ علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينًا، أحمده سبحانه أن هدانا للإسلام، وأشكره على ما حبانا به من الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ مَن قال: "ربي الله" ثم استقام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء وأفضل رسله الكرام، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه هداة الأنام ومصابيح الظلام.
أما بعد أيها الكرام: يَحُلُّ شهر الله المُحرَّم، فيتذكَّر المسلمون ذلك الحدثَ العظيم، الذي قلَب موازين التاريخ، وغيَّر وجه البشريَّة، إنَّه حادث الهجرة النبوية المباركة، من مكَّة المشرَّفة إلى المدينة النبويَّة، الهجرة.. هذا الحدَثُ الجليل الذي قضَى الله جلَّ جلالُه أنْ يكون بداية مِيلاد دَولة الإسلام الأولى.
إنَّ حدَث الهِجرة لم يكن مُجرَّد انتِقال من مَكانٍ إلى مكانٍ، أو خُروج الدَّعوة من مَوطِنٍ إلى آخَر؛ وإنما كان قَضاءً مُبرمًا من الحكيم الخبير سُبحانه، قدَّره ليعلو الإسلام، وليَجعَل كلمة الذين كفروا السُّفلى ﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]، فمن أوَّل يومٍ في الدَّعوة الإسلاميَّة المبارَكة والرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم يعلَم أنَّه سيَخرُج من بلده مُهاجِرًا؛ ففي حديثه مع ورقة بن نَوفَل عندما اصطَحبَتْه زوجُه خديجةُ رضِي الله عنها إلى ابن عمِّها، عندها قال له ورقة: "هذا النامُوسُ الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتَنِي فيها جَذَعًا، ليتَنِي أكون حيًّا إذ يُخرِجك قومُك! فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أوَمُخرِجِيَّ هم؟!))، قال: نعم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثْل ما جئتَ به إلا عُودِي، وإنْ يُدرِكْني يومُك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزَّرًا، ثم لم ينشبْ ورقةُ أنْ تُوفِّي" [صحيح البخاري].
أيها الأحبة: لقد مكث النبيُّ بضع عشرة سنة بمكة وما حولها يدعو الناسَ إلى أصول الإيمان وعبادة الله، فآمَن بدعوته مَن آمَن وكفر من كفر، ولما ضاقت شعاب مكة به وبأصحابه، رأى أنه لا بد من البحث عن مكان جديد تنطلق منه الدعوة، فأذن الله له بالهجرة إلى المدينة، فخرج صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في وقت شديد الحر - الوقت الذي لا يخرج فيه أحد - بل من عادته لم يكن يأتي فيه؛ لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
• وأخفي شخصيته صلى الله عليه وسلم أثناء مجيئه للصدِّيق، وجاء إلى بيت الصدِّيق متلثمًا؛ لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم.
• وأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخرِج مَنْ عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
• وكان الخروج ليلًا ومن باب خلفي في بيت أبي بكر.
• وانتقى شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة.
• ووضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب، الذي يجيد القيام به على أحسن وجه؛ ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته:
فعليٌّ رضي الله عنه: ينام في فراش الرسول صلى الله عليه وسلم؛ تَمويهًا على المشركين وتخذيلًا لَهم، ويُسلِّم الودائع، وعبدالله بن أبي بكر، صاحب المخابرات الصادق، وكاشف تحركات العدو. قالت عائشة رضي الله عنها كما عند البخاري: "ثُم لَحِقَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وأبو بكر في غارٍ في جبل ثَوْر، فكَمُنَا (اختفَيا) فيه ثلاثَ ليالٍ، يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر، وهو غلامٌ، شابٌّ، ثقفٌ (حاذق فطن) لَقِنٌ (سريع الفهم)، فيدلج من عندهما بِسَحَر (قُبَيل الفجر)، فيصبح مع قريش بِمكَّة كبائتٍ، فلا يَسْمع أمرًا يُكتادان به إلاَّ وعاه، حتَّى يأتيَهما بِخَبَرِ ذلك حين يختلط الظَّلام (تشتد ظلمة الليل)"؛ وهو دور الفتيان الأقوياء.
وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن إلى صاحبي الغار، وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه؛ كيلا يتفرسها القوم، لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين.
واتَّخَذ النبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عبدالله بن أريقط دليلًا عارفًا بالطريق برغم كونِه مشركًا، ما دام مؤتَمنًا، متقِنًا لعمله؛ ولذلك أرشدَهم - بِمهارته - إلى اتِّخاذ طريق غير الطريق المعهودة.
وأمَّا دور النِّساء، فهذه عائشة رضي الله عنها وأسماء حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنون المشركين بحثًا عن محمد صلى الله عليه وسلم ليقتلوه. تقولُ عائشة رضي الله عنها متحدِّثة عن نفسها وأختها أسماء: "فجهَّزْناهما أَحَثَّ الجَهازِ (أسرعه، والجَهاز: ما يُحتاج إليه في السَّفر)، وصنَعْنا لهما سُفْرة (الزَّاد الذي يُصْنع للمسافر) في جِراب (وعاء يُحْفَظ فيه الزاد ونَحْوه)، فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعةً من نِطاقها، فربطَتْ به على فَمِ الجراب، فبذلك سُمِّيَت ذات النطاقين"؛ البخاري.
ورغم الاحتياطات العالية، والأخذ بالأسباب في أحداث الهجرة؛ من السرية التامة، وتغيير الطريق، وإرسال المهاجرين دفعات، وترتيب الأدوار، وأخذ الحذر في كل خطوة، فإن المشركين قد عَلِموا بالأمر، وحرَّكوا الفرسان للحاق برَكْبِ المهاجرَينِ، وكان من الممكن أن تمر الهجرة هكذا دون أن تحاط بالأخطار، وخصوصًا بعد أخْذ الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالأسباب، ولكن الله أراد أن يعلِّم عباده المؤمنين أن الأسباب وحدها لا تحقِّق نصرًا، وأن العبد يُحرَم التوفيق إذا لم يعتمد على مسبِّب الأسباب ومسخِّرها؛ لذا انكشف أمر الهجرة؛ لتقول السنن الكونية للبشرية جميعًا: ها قد حانتْ معية الله التي لا يَخِيب معها أحد، فمَنِ الذي منع المشركين من أن يَعْثروا على النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصاحبه، وقد وقَفوا على شفير الغار، حتَّى قال أبو بكر: "لو أنَّ أحدهم نظر تَحْت قدمَيْه لأبصرنا"؟ إنه الله؛ ولذلك كان جواب الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما ظَنُّك يا أبا بكر باثْنَيْن اللهُ ثالثُهما؟))؛ البخاري. يقول الله تعالى كما في سورة التوبة: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].
أيها المسلمون: كما سمعتم لقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة أخذًا قويًّا؛ أعد كل الأسباب، واتخذ كل الوسائل حسب استطاعته وقدرته .. ولكنه في الوقت نفسه مع الله، يقول لأبي بكر الصديق: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)).
هذه الكلمة في زمانها الذي قِيلت فيه، وفي جوِّها المخيف المرعب، وفي مكانها المزلزل المذهل - لها طعمٌ آخرُ وقصةٌ أخرى، لقد جاءت في لحظةٍ طُوِّق فيها على المعصوم وصاحبه في الغار، وأحاط بهما الكفار من كل ناحية، وسلُّوا سيوف الموت، وطوَّقهما الموت من كل مكان، وأُغلقت الأبوابُ، وقطعت الحبال، وعزَّ الصديق والقريب، وغاب الصاحب والحبيب، وعجزت الأسرة والقبيلة، حينها قالها عليه الصلاة والسلام قويةً في حزمٍ، صادقةً في عزمٍ، صارمةً في جزمٍ: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
إذًا معنا الركن الذي لا يُضام، والقوة التي لا تُرام، والعزة التي لا تُغلب، فهو القوي العزيز، وهم الضعفاء الأذلاء، وما دام الله معنا فمِمَّنْ نخاف؟ ومن نخشى؟ ومن نرهب؟ ما دام الله معنا فلا تأسفْ على قِلَّةٍ من عدد، أو عوزٍ من عتاد، أو فقرٍ من مال، أو تخاذلٍ من أنصار.
إن الله معنا وكفى، معنا بحفظه ورعايته، بقوته وجبروته، بكفايته وعنايته، فلِمَ الحزن؟ ولِمَ الخوف؟ ولِمَ القلق؟ اسكنْ، اثبتْ، اهدأْ، اطمئنَّ؛ لأنَّ الله معنا.
لا نُغلب، لا نُهزم، لا نضلُّ، لا نضيع، لا نيئس، لا نقنط؛ لأن الله معنا.
النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا؛ لأن الله معنا.
لو وقفتِ الدنيا كلُّ الدنيا في وجوهنا، لو حاربنا البشر كلُّ البشر، ونازلَنا كلُّ مَن على وجه الأرض، فلا تحزن؛ لأنَّ الله معنا.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، وبعد:
أيها المسلمون: ما أجملها في لفظها ووقعها على النفس، تحتاجها أخي المسلم في كل حال؛ فإذا داهمك أمر فقل: إن الله معنا، وإذا نزلت بك مصيبة فقل: إن الله معنا.
وإذا تكاثف همك، وكثر غمك، وتضاعف حزنك فقل لقلبك ولنفسك: ﴿ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، وإن أرهقك الدَّيْن، أو الفقر والاحتياج؛ فقل لقلبك ولنفسك: ﴿ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، وإذا هزَّتك الأزمات، وطوَّقتك النكبات والكربات؛ فقل لقلبك ولنفسك: ﴿ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، وإذا نزل بك المرض فقل لنفسك: ﴿ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، وإذا استهدفك ظالم بظلم فقل لقلبك ولنفسك: ﴿ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾، قلها بصدق ويقين، واجعلها شعار تعلقك بالله؛ فإنها ترياق المهموم، وسلوة المحزون، وأنس الحائر.
• أخي الحبيب: "لا تحزن؛ لأنَّ الحُزْنَ يزعجك من الماضي، ويخوِّفُك من المستقبل، ويُذهبُ عليك يومك. لا تحزن؛ لأنَّ الحزن ينقبضُ له القلب، ويعبس له الوجه، وتنطفئُ منه الروح، ويتلاشى معه الأمل. لا تحزن؛ لأنَّ الحُزن يسرُّ العدو، ويَغيظُ الصديق، ويُشمت بك الحاسد، ويغيِّر عليك الحقائق. لا تحزن؛ لأن الحزن مخاصمة للقضاء، وخروج على الأنس، ونقمة على النعمة. لا تحزن؛ لأنَّ الحُزْنَ لا يردُّ مفقودًا، ولا يبعث ميتًا، ولا يردُّ قدرًا، ولا يجلب نفعًا. لا تحزن.. إِنْ كنتَ فقيرًا فغيرك محبوس في دَيْن، وإنْ كنتَ لا تملكُ وسيلةَ نقلٍ فسواك مبتور القدمين، وإن كنتَ تشكو من آلام فالآخرون راقدونَ على الأسرة البيضاء، وإن فقدت ولدًا فسواك فقد عددًا من الأولاد. لا تحزن.. إِنْ أذنبتَ فتُبْ، وإن أسأتَ فاستغفرْ، وإن أخطأتَ فأصلح، فالرحمة واسعة، والباب مفتوح، والتوبة مقبولة. لا تحزن.. إن انتفشَ الباطلُ وصارتْ له صولةٌ، فإنَّ مصيره إلى زوال، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 81]. لا تحـزن؛ لأنَّ القضاءَ مفروغٌ منه، والمقدورَ واقعٌ، والأقلامَ جَفَّتْ، والصُّحُفَ طُويتْ، فحُزنك لا يقدم في الواقع شيئًا ولا يؤخر.
ولربَّ نازلةٍ يضيقُ بها الفتى
ذرعًا وعند الله منها المخرَجُ
ضاقت فلما استحكمت حَلْقاتها
فُرِجَتْ وكان يظنُّها لا تُفرَجُ".
• أيها المسلمون: إن أكثر صيغ نفي الحزنِ تكررًا في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: ﴿ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، هذا التركيب الذي تكرر بلفظِه ِأو بلفظٍ مقاربٍ ثلاث عشرة مرةً في كتاب الله، يستحقُّ منا أن نتتبع الموصوفين به.
هذه هي صفاتُ الناسِ الذين نفى الله عنهم الحزن والخوف، تجمعها كلَّها وصيةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأبي عمرو سفيان بن عبدالله الثقفيِّ رضي الله عنه لما قال له: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غَيْرَكَ، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((قل: آمنتُ بالله، ثمَّ استقم)).
والله يقول وقوله الحقُّ المبين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، فكن من هؤلاء كي تنال معية الله.
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلَعِ الدَّيْنِ وغَلَبةِ الرجال!