الخطاب المكي من البعثة إلى الهجرة
قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأحقاف: 9]، لقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم طريق إخوانه الأنبياء السابقين، ودعا قومه إلى توحيد الله عز وجل وطاعته لكي ينالوا سعادة الدنيا والآخرة، غير أن دعوة الأنبياء للتوحيد لم تُواجَهْ بالقبول والترحيب خصوصًا من الملأ، وعِلْيَة القوم وسادتهم؛ لأنها تصطدم بمصالحهم ومكانتهم، فقد رد الملأ من قوم فرعون على موسى عليه السلام بقولهم: ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 78]، فالقضية إذًا إنما هي صراع بين أصحاب المصالح الدنيوية من الملأ ورجالهم وبين الدعاة إلى التوحيد الذين يريدون تحرير الناس من العبودية لغير الله، ولعل دفاع الملأ عن الأصنام المنحوتة والمعبودات المصنوعة هو في حقيقة الأمر دفاع عن الملأ ومواقعهم ومصالحهم، والمتمثل في حماية الوثنية ونظامها؛ ولهذا كانت دعوة الملأ هي التمسك بالأوثان وعبادتها؛ لأن بيئة الوثنية هي الأنسب والأكثر توافقًا مع مصالح هؤلاء الملأ؛ قال تعالى: ﴿ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴾ [ص: 6، 7].
ومن خصائص الدعوة الإسلامية أنها دعوة ربانية؛ أي: إنها تسير وفق منهج رباني، فالحركية والمرحلية مرَدُّها إلى كتاب الله عز وجل، وما ينزل من أوامر وتوجيهات تضمن سلامة الطريق وحسن العاقبة في حال التطبيق الأمثل، كما هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولقد بدأ الأنبياء جميعهم الدعوة باللين والتودد إلى الناس، وهو الأسلوب الأمثل الذي يجب البدء به، والكلمة الأولى التي يجب أن تقال في كل الأحوال. لكنها - أي الكلمة اللينة - ليست هي الكلمة الأخيرة، فأمام عناد المعاندين وعداء المعتدين ماذا يفعل الأنبياء وأتباعهم؟ إن نوحًا عليه السلام دعا على قومه في أواخر سنين دعوته، وذلك بعد إعلام الله تعالى له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن؛ قال تعالى: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [هود: 36]، وإن موسى عليه السلام دعا على فرعون بالهلاك بعد رفضه الكلمة اللينة وإصراره علي الكفر والعناد، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88].
أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه ظلَّ يدعو قومه، ويصبر على عنادهم وأفعالهم وهو يتمنى لهم الهداية ويحزن على إعراضهم وعدم استجابتهم، حتى ترك لهم مكة، وكُلُّه أمل أن يهديهم الله تعالى، وأن يُخْرِجَ من أصلابهم من يعبد الله ولا يشركُ به شيئًا.
وإذا كان اللين في بعض الأحيان والمراحل هو حكمةً؛ فإن ردع الظالم المتطاول علي الدعوة ورجالها والأخذ علي يديه لِمَنْعِ ظلمه وتطاولِه هو - أيضًا - حكمة، غير أن الانتقال من مرحلة اللين والاحتمال والصبر على أذى المعاندين إلى مرحلة الرد أو الردع، هو ما يحتاج إلى بصيرة وهي فقه الدين والدعوة، وفقه الواقع أو الحال.
ومن هنا كانت أهمية دراسة مراحل الدعوة منذ نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وما تلا ذلك من مراحل حتى تحقق وعد الله عز وجل وارتفعت راية التوحيد، وهو ما يجب علي الدعاة إلى الله تعالى أن يفهموه ويدرسوه ويتأسَّوْا به حتى تبلغ الدعوة غايتها.
ومن خلال القراءة التدبرية للقرآن المكي (من أول سورة العلق إلى سورة المطففين حسب ترتيب النزول)[1]، فإنه يمكن تقسيم الفترة المكية (والتي امتدت إلى ثلاثة عشر عامًا) إلى ثلاث مراحل، ولا شك أن لكل مرحلة من تلك المراحل خصائصَها، وأساليبها ووسائلها وأهدافها المرحلية، كما كان لكل مرحلة من تلك المراحل توجيهاتٌ وأوامرُ تتناسب مع طبيعة هذه المرحلة، وسوف نرى أن لغة الخطاب تتصاعد وتتغير مع تصاعد المواجهة، وأن الطابع العام لأوائل ما نزل هو طابع الهدوء وأسلوب اللين، وأن الطابع العام لأواخر ما نزل هو طابع الشدة وأسلوب التغليظ والتعنيف، كما يحمل في طياته التهديد والوعيد[2].
من كتاب: "خطاب القرآن من اقرأ إلى سورة الأنفال (من البعثة إلى غزوة بدر)"
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|