وصايا للخطيب (1) الإخلاص سر النجاح
أخي الخطيب: يا من جعل الله لكلماتك أذاناً صاغية، بل يا من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإنصات لك، ويا من تقوم في الناس خطيباً كل جمعة، لتبين لهم أمر دينهم ولترشد ضالَّهم، وتهدي عاصيهم، وتذكر غافلهم، أبعث إليك هذه الرسالة المخضبة بالحب والتقدير علّها تكون معيناً لك على أداء مهمتك...
أخي الخطيب: قبل أي شيء أوصيك أن تجدد نيتك وتتفقد إخلاصك حتى تكون لكلماتك وخطبك أثراً في قلوب الناس إذ النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة، ثم تأمل معي كم لك من الأجور والحسنات وأنت تقوم في مسجدك خطيباً كل جمعة، وكم هو النفع الذي ينتشر بين الناس بسبب كلماتك ونصائحك عبر الخطبة، إن استشعارك أخي لهذه الفضائل يدفعك إن شاء الله إلى السعي الجاد للرقي بخطبتك قالباً ومضمونا. فلا بد أخي أن توقظ في نفسك حس الدعوة إلى الله وتتلمس حاجة مجتمعك وأمتك إلى نصحك ووعظك وتغييرك...
أخي الخطيب: اعلم أن الإخلاص لله روح الدين ولباب العبادة وأساس أي داع إلى الله وهو في حقيقته قوة إيمانية، وصراع نفسي، يدفع صاحبه بعد جذب وشد إلى أن يتجرد من المصالح الشخصية، وأن يترفع عن الغايات الذاتية، وأن يقصد من عمله وجه الله لا يبغي من ورائه جزاءً ولا شكوراً، فالمخلصون «أعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده» [إشارة إلى حديث: «من أحب لله وابغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان»]..
والإخلاص للخطيب ألزم له من كل أحد وأهميته تفوق كل أمر، وهو استجابة لأمر الله القائل: (﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [البينة: 5]..
والقائل: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ [الإسراء: 18]..
من كان طلبه الدنيا العاجلة، وسعى لها وحدها، ولم يطلب الآخرة، ولم يعمل لها، عجَّل الله له فيها ما يشاؤه الله ويريده مما كتبه له في اللوح المحفوظ، ثم يجعل الله له في الآخرة جهنم، يدخلها ملومًا مطرودًا من رحمته تعالى؛ وذلك بسبب إرادته الدنيا وسعيه لها دون الآخرة.
وفي ترك الإخلاص خوف من الحرمان برّد الأعمال ومنع التوفيق؛ لأن الله جل وعلا قال في الحديث القدسي:
«أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» [أخرجه مسلم.].
وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» [أخرجه أحمد وصححه الألباني].
وفيه وقاية من عذاب الآخرة الذي توعد به الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم - من عمل بلا إخلاص عندما ذكر «أول ثلاثة تسعّر بهم النار وهم قارئ وغني ومجاهد لم يقصدوا بأعمالهم وجه الله» [رواه أحمد وابن حبان في صحيحه والحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد.].
وكيف يتصور هذا الأمر رجل يقاتل تحت راية الإسلام وباسم الدين فكيف يكون من أهل النار وأكثر من ذلك العالم الفقيه الذي تعلّم وسهر الليالي وأصبح عالماً وخطيباً يُشار إليه بالبنان فكيف يكون من أهل النار وآخر يحفظ كتاب الله تلاوة وتجويداً وتفسيراً هؤلاء الثلاثة أول الداخلين إلى النار لماذا؟ إنه ضياع الإخلاص، فعلوا كل ذلك ليقال عنهم أنهم كذلك.
مواعظ الواعظ لن تُقبلا
حتى يعيها قلبه أولا
يا قوم من أظلم من واعظ
قد خالف ما قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسانه
وبارز الرحمن بالخلا
فلا بد والأمر كذلك، من تحري الإخلاص والحذر مما يضاده فإنه لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت.
وحين فهم الأوائل هذا المعنى أوضحوا لجيلهم معانيه فأيقظوا النفوس الغافلة ليستقر فيها مفهوم النية قال ابن المبارك - رحمه الله-: «رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية»، وقال الكيلاني - رحمه الله: «كن صحيحا في السر تكن فصيحا في العلانية»[ المنطلق، محمد الراشد].
وقال هرم بن حيان - رحمه الله: «ما أقبل عبدٌ بقلبه إلى الله، إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه ودهم»[ السير (4 /49).].
روى الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير عن بشير بن عقربة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول: «من قام بخطبته لا يلتمس بها إلا رياءً وسمعةً وقفه تعالى يوم القيامة موقف رياءٍ وسمعةٍ»[ انظر: مسند أحمد (3 / 500)، المعجم الكبير (2 / 29).].
قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وأحمد، ورجاله موثقون [انظر: مجمع الزوائد (2 / 191).].
وقد جمع أحد الفضلاء شرطي قبول العبادة في قوله:
واعلم بأن الأجر ليس بحاصلٍ
إلا إذا كانت له صفتانِ
لابد من إخلاصه ونقائه
وخلوه من سائر الأدران
وكذا متابعة الرسول فإنها
شرط بحكم نبينا العدنان
وإذا كان الإخلاص فريضة على كل عابد؛ فهو في حق العامل والداعي أفرض وأوجب، «إن الداعية المرائي يقترف جريمة مزدوجة، إنه في جبين الدين سُبَّة متنقلة وآفة جائحة، وتقهقُرُ الأديان في حلبة الحياة يرجع إلى مسالك هؤلاء الأدعياء، وقد رويت آثار كثيرة تفضح سيرتهم وتكشف عقباهم، والذي يحصي ما أصاب قضايا الإيمان من انتكاسات على أيدي أدعياء التدين لا يستكثر ما أعد لهم في الآخرة من ويل. . والعمل الخالص الطيب -ولا يقبل الله إلا طيبا- هو الذي يقوم به صاحبه بدوافع اليقين المحض وابتغاء وجه الله، دون اكتراث برضا أو سخط، ودون تحرٍّ لإجابة رغبة أو كبح رغبة»[ محمد الغزالي، مع الله.].
والمفروض أن الخطيب العارف بالله قد بلغ من منازل الإيمان منزلة تجعل رجاءه في الله وحده يسبق كل رغبة إلى مخلوق، والإخلاص يجعل للكلمات حيوية مؤثرة، وللدعوة قولاً سريعاً.
فما عليك أخي الداعية إلا أن تنظر في أعمالك التي تصدر منك: هل هي لله وموافقة لشرع الله وعلى سنة رسول الله خالصة لوجه الله لا تبتغي وراءها جزاءً ولا شكوراً؟ فإذا كانت كذلك فأسأل الله الثبات، وتطلع دائماً إلى المزيد، والتدرج نحو الكمال، وإذا كانت غير ذلك فتب إلى الله وصحح النية، واخلص لله واجتهد على أن يكون العمل وِفق شرع الله.
فأنطلق أخي الخطيب على بركة الله بالإخلاص لله في طريق الله لتصل الى الله، وقد رضي عنك فأجزل لك العطاء، وأسبغ عليك النعم، وأكرمك أفضل إكرام، وإذ بالحسنات قد تضاعفت وبالسيئات قد محُيت وإذ بك تستمع: ﴿ سلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|