مفارقات بين دار الهجرة ودار الندوة
إبليس يجتمع مع شياطين الإنس ليصدَّ عن سبيل الله، ويعوق أولياء الله، ويقطع الطريق إلى الله، ديدنه القعود في الطريق المستقيم لإبعاد سالكيه وغوايتهم ودفعهم إلى الهاوية..!! ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الأعراف: 16].
دائما يبغض الحق، ويتحدى أصحابه هكذا فعل مع آدم وزوجته فأخرجهما من الجنة، ثم تاب آدم فتاب الله عليه.. وهكذا فعل مع إبراهيم عليه السلام وهو يبني قواعد التوحيد في مكة فرُجم رجم الكلب وهو يرجم كل عام في موسم الحج، ومع محمد صلى الله عليه وسلم اجتمع إبليس مع أباليس البشر في دار الندوة ليضعوا معا خطة للقضاء على الاسلام ودعاته..!! وصلوا بعد مداولات إلى اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمي مكة أبو جهل بن هشام.
حيث قال: والله إن لي فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نَسِيبا وَسِيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا بالعَقْل، فعقلناه لهم. فقال إبليس في صورة الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره. ووافق برلمان الشر في مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30] هذه المؤامرة الإجرامية تقرر في النهاية غير ما يقررون..!! وتثمر غير ما يريدون..!! أراد المبطلون القضاء على الإسلام وأصحابه..!! لكن الله أراد إظهار الإسلام وأتباعه، فليطمئن أصحاب الدعوات إلى أمر الله.. فهل دار الندوة أثمرت شيئاً يعطل الدعوة أو يقف الدعاة؟!! كلا ثم كلا!! كيف؟
عندما اجتمعوا أمام بيته ليقتلوه كان يقرا القران في طريقه يتحصن به، ويتقوى به، يتوجه إلى الله بكلماته، ويستجلب نصر الله بآياته..!!.. عند خروجه من منزله وجد أربعين شابا.. ينتظرونه ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه بين القبائل..!! فتحصن هو بالقرآن َ﴿ جَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9] خرج من بين أيديهم بعد أن نثر التراب على رؤوسهم ﴿ .. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 17].
وعندما وصل الغار مع صحبه..!! وصلوا من خلفه، فقال أبوبكر لو نظر أحدهم إلى قدمه لرآنا..!! وهنا يتجلى عنصر الثقة بالله بعد الأخذ بالأسباب..!! كيف؟! ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا..!! وسجلت في القرآن يتعبد بها المؤمنون إلى يوم الدين ﴿ إلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40].
وعنما لحق به سراقة ليسلم رأسه ويفوز بالجائزة سمع منه ورأى وجهه وشاهد آيات الله عندما ساخت قوائم فرسه في الأرض طلب منه النجاة وعرض عليه السهام والأموال والماشية فرفض رسول الله ووعده بسواري كسرى، فتحول من طالب لرأسه حارسا لحياته يكفيه هذا الطريق من الأعداء...!!
أما دار الهجرة (يثرب) صارت منبع الإيمان ومهبط القرآن وموطن الإسلام، شرع فيها الجهاد لمواجهة المتربصين بها من قريش واليهود وغيرهم، فكان لا بد من إمدادها بالطاقة البشرية الكافية إيمان فهجرة فجهاد بترتيب القرآن ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 218].
دار الهجرة وصلها المهاجرون فحازوا مع الأنصار شرفاً عظيماً في الدنيا فضلاً عن ثواب الله في الآخرة، فقد اعتبروا أهل السبق في تأسيس دولة الإسلام فنالوا رضي الله والقربى منه ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ [التوبة: 100]. وهكذا خلد الله ذكرهم في القرآن الذي يتعبد المسلمون بتلاوته إلى آخر الزمان.
دار الهجرة احتضنت أفضل أهل الأرض من البشر مهاجرين وأنصار..!! إيمانا وإحسانا شجاعة وإقداما..!!..!! صفاء نفوس، ونقاء سريرة، وحسن سلوك، وزهدا في الدنيا، ورغبة في الآخرة، إقبالاً على الله، بذلا للنفس والنفيس، وتضحية بكل شيء في سبيل الله عز وجل، هؤلاء الذين أخلصوا لله نواياهم، وصفوا لله سرائرهم، وترفعت عن الدنيا هممهم، وذهبوا عن المتاع الممنوح والصراع المجروح فهموا أن ذلك يورد المهالك..!! كيف؟!! ﴿ إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [يونس: 8].
دار الهجرة قامت انطلقت منها دولة الإسلام، والتي أرست ركائز المجتمع الإسلامي على أساس من الوحدة والمحبة والتكافل والتآخي والحرية والمساواة وضمان الحقوق، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو رئيس هذه الدولة وقائد جيوشها وكبير قضاتها ومعلمها الأول، فتكوَّن جيلٌ رباني تمكن من الجمع بين عبادة الله وعمران الحياة وعمل تحت شعار: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
وفي خلال عقد من الزمن عاشت الجزيرة العربية في ظل الإسلام، ثم انتشر في خلال عقود قليلة تالية ليعم منطقة واسعة امتدت من السند شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً حيث آمن الناس بالإسلام، واستظلوا بشريعته العادلة وأقاموا حضارة زاهرة آتت أكلها قروناً طويلة في حقول التشريع والتربية وعلوم الكون.
دار الندوة التي يجتمع فيها شياطين الإنس والجن وما أكثرها لا يخرج منها إلا الهدم والشر والخراب، أما دار الهجرة إلى الله إنما تثمر البناء والتضحية والعطاء والفداء وصدق الله ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ [النحل: 41] بل تأتي بالسعة والمراغمة ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ﴾ [النساء: 100].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|