مواقف من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ثباتهم واعتمادهم على الله
إن أشد الناس ثباتًا على الحق واعتمادًا على الله، هم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ بل أستطيع القول إن كل مواقف الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ثباتٌ على الحق؛ وبالتالي فإن محاولة حصرها، والإلمام بها من الصعوبة بمكان؛ لذلك سوف أعرض بعضها على سبيل المثال لا الحصر.
أ: مواقف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة هذه المواقف ما يلي:
1- ما حدث في صلح الحديبية عندما جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، فَقَالَ: ((بَلَى))، فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟! قَالَ: ((بَلَى))، قَالَ: فَعَلَامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟! أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟! فَقَالَ: ((يَا بْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا))[1].
2- عن أنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حدَّثهم، قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، فَرَأَيْتُ آثَارَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَـعَ قَدَمـَهُ رَآنَا، قَالَ: ((مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟))[2].
3- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ))، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا))[3].
4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاس بْنَ عَبْدِالْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّة عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَة بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَـا شِئْتِ مِنْ مَـالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِـنْ اللَّهِ شَيْئًا))[4].
ب: مواقف للنبي موسى عليه السلام، ومن أمثلة هذه المواقف ما يلي:
مع فرعون وقومه وصوَّره القرآن الكريم في الموقف التالي: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62]
ويقول الطبري رحمه الله، عن معنى قوله تعالى: ﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾؛ أي: سيهدين لطريق أنجو فيه من فرعون وقومه [5]، وهنا يتضح ثقة موسى عليه السلام بوَعْد الله تعالى في نجاته من كيد فرعون.
ويقول أبو حيان رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62]؛ أي: زجرهم وردعهم بحرف الردع؛ وهو كلا، والمعنى: لن يدركوكم؛ لأن الله تعالى وعَدَكم بالنصر والخلاص منهم، ﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾عن قريب إلى طريق النجاة ويُعرِّفْنيه، وقيل: سيكفيني أمرهم [6].
ج: مواقف للنبي إبراهيم عليه السلام، ومن أمثلة هذه المواقف ما يلي:
1- ورد في صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ﴿ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173]، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].
2- الحوار الذي دار بين سيدنا إبراهيم عليه السلام، وبين النمروذ بن كنعان ملك زمانه، وصوَّره القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
ويتضح هنا قوة حجة سيدنا إبراهيم عليه السلام التي بهتت النمروذ؛ حيث أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75]، وأوضح ذلك السعدي حيث قال: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ حين وفَّقْناه للتوحيد والدعوة إليه ﴿ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾؛ أي: ليرى ببصيرته، ما اشتملت عليه من الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة ﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾فإنه بحسب قيام الأدلة، يحصل له الإيقان والعلم التام بجميع المطالب[7].
د: مواقف للنبي يونس (ذي النون) عليه السلام، ومن أمثلة هذه المواقف ما يلي:
قال تعالى: ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 87، 88].
وهنا يتضح ثبات سيدنا يونس عليه السلام في ثقته بربه، وأنه سبحانه قادر على أن يُنجيه مما هو فيه من الكرب، فحينئذٍ دعا ربَّه بإخلاص، وحسن توجُّه؛ فأجابه الله تعالى، ونجَّاه من الكرب العظيم الذي ألمَّ به.
وقد جاء في الحديث الشريف عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَـمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ)) [8].
هـ: مواقف للنبي يعقوب عليه السلام، ومن أمثلة هذه المواقف ما يلي:
قصة سيدنا يعقوب عليه السلام عندما قام بعض أبنائه بالكيد لأخيهم لأبيهم يوسف عليه السلام، وصوَّر ذلك القرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، ويتضح هنا قوة إيمان سيدنا يعقوب عليه السلام، وثقته بربِّه جل وعلا في مواجهة المصائب والمحن، وأي مصيبة أعظم من فَقْد الولد.
ومواقف للنبي يوسف عليه السلام، ومن أمثلة هذه المواقف ما يلي:
1- موقفه عليه السلام مع "زليخا" امرأة العزيز، وصوَّره القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ [يوسف: 23].
وهنا يتضح قوة يوسف عليه السلام وصلابته وثباته على طاعة ربه سبحانه، وعدم عصيانه، فتعوَّذ بالله تعالى من فعل ما يغضب ربه جل وعلا، ويقول أبو السعود رحمه الله؛ أي: أعوذ بالله مَعاذًا مما تدعينني إليه، وهذا اجتنابٌ منه على أتم الوجوه، وإشارةٌ إلى التعليل بأنه منكَرٌ هائلٌ يجب أن يُعاذ بالله تعالى للخلاص منه [9].
2- وقوله عليه السلام عندما طلب الولاية، والذي صوَّره القرآن الكريم؛ فقال تعالى: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، ويقول السعدي رحمه الله: وليس ذلك حرصًا من يوسف على الولاية؛ وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه[10].
ولكن من الملاحظ اليوم أن بعض الناس يتقدَّم للمنصب العام، ويستشهد بقول سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]؛ ولكن للأسف إن بحثت وتمعَّنت في شخصيته وجدته إنسانًا غير مؤهل لهذا العمل؛ بل يدفعه غالبًا إلى ذلك حب القيادة والتشوُّف إلى بعض المصالح الدنيوية التي يرومها من وراء ذلك.
ويحسن بنا في هذا المقام أن نشير إلى الحديث الشريف؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)) [11].
وعمومًا يجب أن يضبط هذا الموضوع بوَضْع معايير وقواعد ومقاييس واضحة ومحددة ومدروسة بعناية فائقة لكل المناصب الإدارية التي تمسُّ مصالح الناس؛ بحيث لا يُعيَّن فيها إلا الأكْفَاء.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|