مقاصد السنة النبوية (2) حفظ النفس
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده:
أعلى الإسلامُ من شأن النفس الإنسانية ورَفَعَ قدرَها، وحافَظَ عليها أيًّا ما كان دينُها وعقيدتُها، فالنفس محترمةٌ في ذاتها ولذاتها بصرف النَّظرِ عن معتقدها ومذهبها ودينها؛ لأنَّ الذي خَلَقَها وبَرَأها إنما هو الله ربُّ العالمين، وقد أكَّد الله سبحانه على عظمةِ النفس وعظمةِ حُرمتها، فأقسم بها سبحانه قائلًا: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴾ [الشمس: 7]، وبيَّن عظمةَ الجُرم في التَّعدِّي عليها، قائلًا: ﴿ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ [المائدة: 32].
وقد جعلت السنة النبوية حِفظَ النفس من أهمِّ مقاصدها، فكان حِفظُ النفسِ هو المقصد الثاني للسنة النبوية بعد حِفظ الدِّين، وذلك لكون حفظ النفس من ضروريات الحياة الإنسانية وبقائها.
تعريف حِفْظ النفس: سبق الإسلامُ التشريعاتِ الدولية إلى تعريف حفظ النفس، وقد جاء تعريف العلماء له جامعًا مانعًا، مُتَّخِذًا عدَّة مستويات تدور كلُّها حول تحقيق هدفٍ واحد، وهو حفظ النفس من الهلاك، ولعلَّ أجمعَ تعريفٍ لها ما أورده الشاطبي رحمه الله بقوله: (وحِفظُ النفسِ حاصِلُه في ثلاثة معانٍ: وهي: إقامةُ أصلِه بشرعية التناسل، وحِفظُ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود من جهة المأكل والمشرب؛ وذلك ما يحفظه من داخل، والملبس والمسكن؛ وذلك ما يحفظه من خارج، وجميع هذا مذكورٌ أصلُه في القرآن، ومُبَيَّن في السُّنة، ومُكَمِّلُه ثلاثة أشياء: وذلك حِفْظُه عن وضعه في حرامٍ كالزِّنا؛ وذلك بأن يكون على النكاح الصحيح، ويُلحق به كلُّ ما هو من متعلقاته كالطلاق والخُلع واللِّعان وغيرها. وحِفظُ ما يتغذَّى به أن يكون ممَّا لا يضر أو يقتل أو يفسد، وإقامةُ ما لا تقوم هذه الأمور إلاَّ به من الذبائحِ والصيد، وشرعية الحد، والقصاص، ومراعاة العوارض اللاحقة، وأشباه ذلك. وقد دخل حِفظُ النسل في هذا القِسم، وأصولُه في القرآن، والسُّنةُ بَيَّنَتْها)[1].
درجات المحافظة على النَّفس: المحافظة على النفس لها ثلاث حالات:
الحالة الأُولى: موقع السَّعة واليُسر، فإذا كان الإنسان في مِثْلِ هذه الحالة العادية التي يُطبَّق فيها التَّشريع العام، فليقتصر على ما أُبيح له من أشياء وتصرُّفات كسبًا وتداولًا، ويقوم بكلِّ ما عليه من واجبات، ولا يجوز له أنْ يتعدَّى ذلك، وفي مِثلِ هذه الحالة العادية أباح الله تعالى له جميع أنواع الحلال الطيب ما لم يثبت إضراره به؛ من طرق الكسب الحلال؛ كالزراعة والتجارة، والصناعة وأنواع الحِرَف، ولو كان الكسب قد وصل إليه بطريق الخلافة؛ كالميراث والوصِيَّة[2]، وكذا المعاملات الخالية من الأضرار؛ كالبيع والشراء، والقرض، الإجارة، والمساقاة، والمزارعة، والجعالة، والشركة، والوكالة، والهدايا، والهبات، والوصايا والصدقات، والزكوات ونحو ذلك.
وطَلَبَ منه أن يقوم بجميع الواجبات العبادية، وحرَّم عليه الميتة والدَّم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به، ونحو ذلك، مما حرَّم تحريمًا صريحًا بأدلة شرعية؛ كشرب الخمر، وأكل الربا.
الحالة الثانية: موقع الحاجة، كأن يكون الإنسان في ضيق وحرج وعُسر، ولكنه لم يبلغ حدَّ الضرورة؛ كالجائع الذي لو لم يجد ما يأكله لم يَهلك، غير أنه يكون في جهد ومشقَّة. في هذه الحالة خفَّف الله عنه ببعض الرُّخص، والرُّخصة: ما شرعه الله تعالى من الأحكام تخفيفًا في حالاتٍ خاصة تقتضي هذا التَّخفيف، وأمَّا العزيمة: فهي ما شرعه الله أصالةً من الأحكام العامة التي لا تختصُّ بحالٍ دون حال، ولا بمكلفٍ دون مكلف كما هو الشأن في الحالة الأولى[3].
الحالة الثالثة: موقع الضَّرورة، وخلاصة القول في تعريف الضرورة: أنْ تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة؛ بحث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو طرف من الأطراف أو بالعِرْضِ أو بالعقلِ، فيتعيَّن أو يُباح له عندئذٍ الانتقال من الحالتين؛ الأُولى والثانية إلى الحالة الثالثة، وذلك بِفِعل ما كان مُحرَّمًا، أو بتركِ ما كان واجبًا، أو تأخيره عن وقته؛ دفعًا للضَّرر عنه في غالب ظنِّه ضمن قيود الشرع ومبادئه[4].
وهذا يشمل ضرورة الغذاء والدَّواء والانتفاع بمال الغير، والقيام بفعلٍ أو الامتناع عنه تحت تأثير الرَّهبة أو الإكراه، والدفاع عن النفس، وترك الواجبات الشرعية المفروضة أو تأخيرها عن وقتها، وهذا هو المعنى العام للضرورة[5].
وهذه الحالات الثلاثة قد استغرقت كلَّ أحوال الإنسان وتقلُّباتها وتماشت معها بما يضمن بقاء الإنسان وحفظ وجوده، ووضعت الشريعة أحكامًا خاصة بكلِّ حالة، وربطت بينها ارتباط المُسبِّب بالسَّبب، فإذا وُجِدَ السَّبب وُجِدَ المُسبِّب، وإذا انتفى السَّبب انتفى المُسبِّب، وهذا دليلٌ على مرونة الشريعة الإسلامية ومطاوعتِها لما يُحقِّق مصلحةَ الإنسان ويضمن بقاءَه.
وسائل المحافظة على النَّفس في السُّنة: هناك عدة وسائل للمحافظة على النفس، ورد ذِكرها في السُّنة النبوية، وهي على النحو التالي:
أوَّلًا: وسائل المحافظة على النَّفس من "جانب الوجود":
1- الحث على التَّكاثر والتَّناسل: وإيجاد النفوس لِتَعْمُرَ العالَم، وتُشَكِّل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف، فشُرِع الزواج على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ)[6]، وقد نوَّه الإسلامُ بالعلاقة المُقدسة بين الزوجين واعتبرها آيةً من آيات الله، في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].
2- تحديد مسؤولية الآباء عن الأبناء: فقد وضع الله تعالى للإنسان تشريعات تكفل له وجودًا سليمًا، فحدَّد مسؤولية الآباء عن الأبناء، وذلك بمشروعية عقد النِّكاح، وتحريم الزنا، وبمقتضى هذا العقد يلتزم الآباء القيام على شؤون الأولاد، من نفقة ورعاية وعناية حتى يبلغوا أشدَّهم ويتلوا شؤونهم، وقد أجمع العلماء: على وجوب نفقة الأب على أولاده الصغار الذين لا مال لهم، استدلالًا بحديث هند بنت عتبة، لمَّا شكت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أبا سفيان، فقال لها: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)[7].
ولولا عقد النكاح واختصاص كلِّ رجلٍ بامرأةٍ لَمَا وثق الآباء بنسبة الأبناء إليهم، وسيؤدي ذلك إلى فتور العاطفة الأبوية، والتهرب من المسؤولية[8].
3- بيان الحلال والحرام: فعند استقراءِ الأحكام الشرعية وفحْصِها نجد أنها جميعها شُرِعتْ لتحقيق مصلحة الإنسان، إما بجلب النفع له، وإما بدفع الضُّر عنه.
والعقول ليست لها صلاحيةُ الاستقلال بإدراك المصالح، ولا بتقدير المنافع والمَضار؛ لذا ليس للإنسان أن يُحرِّمَ شيئًا ولا يُحِلَّه إلاَّ اعتمادًا على أحكام الشرع وقواعده؛ والتحليلُ والتحريم هو تقدير المصالح والمفاسد، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (لا يُعْبَدُ اللهُ تعالى إلاَّ بِمَا شَرَعَهُ على أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فإنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّهُ على عِبَادِهِ، وَحَقُّهُ الذي أَحَقَّهُ هو وَرَضِيَ بِهِ وَشَرَعَهُ، وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ وَالْمُعَامَلاتُ فَهِيَ عَفْوٌ حتى يُحَرِّمَهَا، وَلِهَذَا نَعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ على الْمُشْرِكِينَ مُخَالَفَةَ هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ؛ وهو تَحْرِيمُ ما لم يُحَرِّمْهُ، وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ بِمَا لم يُشَرِّعْهُ)[9].
ثم إنَّ الحلال والحرام مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بمصالح الآخرة ومفاسدها من ثواب وعقاب، فالإثم يترتَّب على المُحرَّم، والبِرُّ يترتَّب على الحلال، ومصالح الآخرة مُجمعٌ على أنَّ العقل لا يستطيع إدراكها بدون هداية الشرع الحكيم.
ومِمَّا يدلُّ على أنَّ التحليل والتحريم من حقِّ الشارع الحكيم، ما جاء عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما؛ أنَّه قال: (كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْكُلُونَ أَشْيَاءَ، وَيَتْرُكُونَ أَشْيَاءَ؛ تَقَذُّرًا، فَبَعَثَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْزَلَ كِتَابَهُ، وَأَحَلَّ حَلاَلَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، فَمَا أَحَلَّ؛ فَهُوَ حَلاَلٌ، وَمَا حَرَّمَ؛ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ؛ فَهُوَ عَفْوٌ)[10]؛ لذا كان السلف الصالح يتورَّعون في فتياهم من نسبة التحليل والتحريم إليهم، وربما قال بعضهم: أكره ذلك أو أستحبه، أو لا يعجبني، ونحو ذلك[11].
وقد بيَّن الله تعالى على لسان نبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم الحلالَ المحض؛ الذي نفعُه بَيِّن، والحرامَ المحض؛ الذي ضررُه بيِّن ليكون معلومًا للناس بالضَّرورة، وجعل بينهما أمورًا مشتبهات لا يعلمهنَّ كثير من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، ألا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ)[12].
وقد يسأل سائل: ما العلاقة بين التحليل والتحريم وبين حِفظِ النفس؟ والجواب واضِحٌ لا لَبْسَ فيه، فالعلاقة بينهما من جانبين:
أمَّا الجانب الأوَّل، فهو الجانب الدنيوي؛ إذ نظَّمت الشريعة حركة الحياة، ويسَّرت سُبل المعيشة، وسهَّلت على الإنسان حياته، بأنْ بيَّنت له الحلالَ من الحرام، فإذا سار وفق هذا المنهج فقد ضمن لنفسه حياةً سعيدةً، بعيدةً عن الفتن والمشاكل والتي قد تودي بحياته.
وأمَّا الجانب الثاني، فهو الجانب الأُخروي، إذْ بيَّنت الشريعة مصير الإنسان في الآخرة، فإمَّا إلى الهلاك والبوار في قعر جهنم، وإمَّا إلى الجنة والنعيم، وهذا البيان فيه حِفظٌ لحياة الإنسان، وصيانةٌ له من نار جهنم. وهكذا ارتبطَ تشريع الحلال والحرام بحفظ النفس في الدنيا وفي الآخرة، ممَّا يدُّلنا على الارتباط الوثيق والعلاقة الوطيدة بين التحليل والتحريم وبين حفظ النفس.
ثانيًا: وسائل المحافظة على النَّفس من "جانب العدم":
وأمَّا من جهة الاستمرار والدوام: فقد شُرِعَتْ عِدَّة وسائل لحفظ النفس، ومن أهمها:
1- أَوجَب على الإنسان أنْ يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته؛ من تناولٍ للطعام والشراب، وتوفير اللباس، والمسكن، فيحرم على المسلم أن يمتنع عن هذه الضَّروريات إلى الحدِّ الذي يهدد بقاء حياته.
كما اعتبر الحصول على هذه الضروريات هو الحد الأدنى الذي يلزم المجتمع مُمثَّلًا في الأفراد من جهة، بما أوجبه عليهم من حقٍّ معلومٍ في أموالهم يُرَدُّ على فقرائهم، وفي الدولة من جهةٍ أُخرى مُمثَّلةً في أجهزتها وأنظمتها بتوفير هذا الحدِّ الأدنى الضروري للأفراد العاجزين عن توفيره لأنفسهم، بل أوجب على الإنسان - إذا وجد نفسه مُهدَّدة - أنْ يَدفع عن نفسه الهلاك بأكل مال غيره بقدر الضرورة.
2- أَوجَب على الدولة إقامة الأجهزة الكفيلة بتوفير الأمن العام للأفراد؛ من قضاءٍ، وشرطة وغيرها، مما يحقق الأمن للمجتمع.
3- أَوجَب المحافظة على كرامة الآدمي بمنع القذف والسَّب، ومما جاء فيه، قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ)[13]؛ وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ؛ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا)[14]. ومنع الحد من نشاط الإنسان من غير مبرر، وبهذا حَمَى حريات الفكر والعمل والرأي والإقامة والتنقل وكفلها.
والإسلام هنا أشار إلى جريمة قتلٍ من نوعٍ جديد، ربما لم يتنبَّه إليها أحدٌ حتى في عصرنا هذا، فلَعْنُ المؤمنِ وقذْفُه والتَّشنيعُ عليه هو بمثابة القتل، إذْ قد يَضْطَرُّ هذا المقذوفُ إلى عدم مواجهة المجتمع والخروج إليهم لِمَا مَسَّ شرفَه وعِرضَه وكرامتَه، فيُحْرَمُ المجتمعُ من رجلٍ ربما لديه كفاءات تفيد المجتمع، ويُحرم الشخصُّ نفسُه من ممارسة حياته التي منحها الله له بشكل طبيعي، فيكون ذلك بمثابة القتل، فما أعظمَ نبيَّ الإسلام حينما أشار إلى ذلك، وعبَّر عن تلك القيمة التي افتقدناها في حياتنا المعاصرة.
4- تشريع الرُّخص بسبب المشقة التي تلحق النفس، فينشأ منها ضرر عليها، ومن ذلك: رُخص الفطر في رمضان؛ بسبب المرض والسفر، وقصر الصلاة في السفر.
5- حرَّم الإسلام قتلَ النفس سواء قَتَل الإنسانُ نفسَه أو غيرَه، وفي ذلك يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم (لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ؛ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، والمُفَاِرُق لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ)[15]، والوعيد الأخروي يشمل قتل الإنسان نفسَه؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهَا في نَارِ جَهَنَّمَ)[16]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم - فيمَنْ قتل معاهَدًا: (مَن ْقَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا)[17].
وتحريم قتل النفس في الإسلام مرتبطٌ بقضية غايةٍ في الخطورة، وهي حُرمة الخالق سبحانه وتعالى؛ إذ أنَّ هذه النَّفسَ مُلْكٌ لخالقها، وهو الله تعالى الذي خلقها ووهبها الحياة، فله سبحانه وحده الحقُّ في إبقائها أو موتها، مهما كانت هذه النفس، فهي مُحترمةٌ لِحُرْمَةِ خالقها، مُعظَّمةٌ لِعَظَمَةِ باريها، فالعبرة هنا بمَنْ خَلَقَ وليس بما خَلَقَ، ولو كانت العبرة بالمخلوق، لَمَا استحقَّ أنْ يعيش مَنْ يعبدُ غيرَ الله على وجه الأرض بعدما بلغته رسالةُ ربِّه لحظةً واحدة، وعندما توجد الأسباب الداعية إلى إزهاقها وقتلها، فهذه الأسباب إنما الذي يُحدِّدها هو الله وحده، ولا دخل لأحدٍ كائنًا مَنْ كان في هذا الأمر.
6- أَوجَب القصاصَ في القتل العمد، والدِّيةَ والكفارةَ في القتل خطأ، عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ (أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بين حَجَرَيْنِ فَقِيلَ لها: مَنْ فَعَلَ بِكِ هذا؟ أَفُلاَنٌ، أَفُلاَنٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ الْيَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَجِيءَ بِالْيَهُودِيِّ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ)[18]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتِلَ له قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ)[19]. وجه الدلالة: مشروعية القصاص والعفو والدية.
قال ابن العربي رحمه الله: (لم يخلُ زمانُ آدم ولا زمَنٌ بعده من شرعٍ، وأهم قواعد الشرائع حماية الدِّماء عن الاعتداء، وحِياطَتُه بالقصاص كفًّا ورَدْعًا للظالمين والجائرين، وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع والأصول التي لا تختلف فيها المِلل)[20].
وتشريعُ العفوِ والدِّيةِ فيه حفظٌ للنفس أيضًا، فإذا كانت هناك نفسٌ قد أُزهِقَت، فقد جعل الخالقُ سبحانه مخرجًا لنفس القاتل ألاَّ تُزهق؛ بشرط الرضا من قِبَلِ وليِّ المقتول، وهذا التشريعُ فيه سعةٌ ويُسر، وجبرٌ لخاطر أهل المقتول، وحقنٌ للدماء، وحِفظٌ للأنفس، وصِيانةٌ لها من الموت والهلاك.
7- إعلان الجهاد؛ حِفظًا للنفوس، وحماية للمستضعفين؛ عن أنسٍ رضي الله عنه قال: (خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الْخَنْدَقِ، فإذا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ في غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، فلم يَكُنْ لهم عَبِيدٌ يَعْمَلُونَ ذلك لَهُم، فَلَمَّا رَأَى ما بِهِمْ من النَّصَبِ وَالْجُوعِ قال: اللهم إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخرة فَاغْفِرْ لِلْلأَنْصَارِ والمهاجرة.
فَقَالُوا مُجِيبِينَ له: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا على الْجِهَادِ ما بَقِينَا أَبَدَا)[21].
8- أَوجَب على المسلم إنقاذ مَنْ يتعرَّض للقتل ظُلمًا، أو يتعرض لخطرٍ إن استطاع أن ينقذه. والتضحية بالنفس في سبيل نصرة الإسلام، أو جلبِ منفعةٍ عامة للمسلمين جائزة؛ لأنَّ مصلحة الدِّين مُقدَّمة على مصلحة النفس، بل يُعدُّ الإقدامُ على الموتِ دفاعًا عن الدِّين، ومصلحةِ المسلمين مقامَ شرفٍ ومدحٍ عند الله تعالى، وعند الناس.
ومع ذلك فإنَّ المسلم إذا علم أنَّ إقدامه على الموت لا يُحقق مصلحةَ المسلمين مع هلاكه، فلا يُستحسن إقدامه على التهلكة، قال العز بن عبدالسلام: (التَّولِّي يوم الزَّحف مفسدة كبيرة، لكنه واجبٌ إذا عَلِمَ أنه يُقتل من غير نكايةٍ في الكفار؛ لأنَّ التعزير بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحةِ إعزاز الدِّين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام؛ لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام. وقد صار الثبوت ها هنا مفسدة محضة ليس في طيِّها مصلحة)[22].
وهذا الانهزام الذي يحفظ دماء المسلمين له هدفٌ آخَر غايةٌ في الأهمية، وهو توحيدُ الصَّف من جديد، وتجميعُ القوة وشحذُها، والانطلاقُ من جديد إلى الجهاد، وفي إقدامِ هذه الأنفس مع اليقين بموتها وانهزامِها تفويتٌ لمصلحة عظيمة، وهي إعادة الكَرَّة والتَّجمُّع والاستعداد للحرب مرة أُخرى.
9- شُرِعَ للإنسان أن يُدافع عن نفسه إذا هاجمه مَنْ يُريد الاعتداء عليه، دون تحمُّل أيَّة مسؤولية إذا مات المُهاجم، أو أصابه أذى، وثبت أنه كان يريد الاعتداء عليه؛ ويدل عليه:
أ - ما جاء عن عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قال: قَاتَلَ يَعْلَى بنُ مُنْيَةَ أو ابنُ أُمَيَّةَ رَجُلًا، فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ، فَاخْتَصَمَا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: (أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الْفَحْلُ، لاَ دِيَةَ لَهُ)[23].
ب- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ)[24]. وفي رواية: (مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ)[25]. وفي رواية: (مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَالِهِ فَقُتِلَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ دَمِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قَاتَلَ دُونَ أَهْلِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ)[26].
والخلاصة: أنَّ هناك تشريعات حكيمة جاءت مُفصَّلة ومُبيَّنة في السنة النبوية؛ للمحافظة على أنفس الناس وأطرافهم من الاعتداء عليها، فجَعَلتْ عقاب مَنْ يقتل نفسَه مُتعمِّدًا، بأنْ ينال عقابًا شديدًا في الآخرة؛ وهو أنْ يُعيدَ قتلَ نفسِه في النار بنفس الطريقة؛ إمعانًا في تعذيبه، وتشديدًا في عقابه، كما جَعَلتْ جزاءَ مَنْ قتل غيرَه بغير وجهِ حقٍّ متعمِّدًا في أعلى درجات الجزاء؛ وهو القتل، وجَعَلتْ لوليِّ المقتول حقَّ العفو بدون مقابل، أو على بدل من المال، ورتَّبتْ على قتل الخطأ بعض العقوبات التي تجعل الإنسان يُراعي في تصرفاته وأفعاله الحِكمةَ واليقظة، ويترفَّعَ عن التساهل وعدم الحيطة؛ حتى لا يؤدِّي إهمالُه إلى إتلاف نفوس الناس أو أعضائهم. وهذه التشريعات ضَمِنَتْ بشكلٍ مباشر حِفْظَ النفس في الشريعة الإسلامية وصيانتها.
كما أنَّ الشريعة جعلتْ أحكامًا ورتَّبتها، من شأنها أن تحفظ النفس وتصونها بشكلٍ غير مباشر، ومنها: الحثُّ على التزاوج والتناسل، وتحقيقُ قدرٍ من التكافل الذي يضمن الحدَّ الذي تقوم به الحياة؛ من مأكلٍ ومشرب وملبس ومسكن، ومداواة، ثم جعلتْ حقَّ الدِّفاع، وحماية الضعفاء والمساكين والنساء واجبًا شرعيًا ضد الأعداء، وشرعتْ الجهاد في وجه أعداء الدِّين والمعتدين؛ صيانةً للنفوس، وحِفظًا للأرواح.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|