فضل المحافظة على سنن الصلوات القبلية والبعدية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
أيها المسلمون، اعلموا-رحمني الله وإياكم-أن الصلاة عمود الدين، وأعظم العبادات العملية بين المسلمين، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام، والفريضة الدائمة في الليالي والأيام؛ على الرجل والمرأة، والحر والعبد، والمسافر والمقيم، والصحيح والمريض، ما دام العقل موجودًا، والمانع من زوال التكليف مفقودًا، فرضت هذه العبادة في السماء لشرفها، وتلقَّى رسول الله فرضيتها عن الله مباشرة لسموِّ مكانتها، وجُعلت صلةً بين العبد وربه، وصارت أولَ ما يُحاسب عليه المكلَّف يوم المعاد من عمله، مَنْ حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأُبَيِّ بن خلف.
كانت الصلاة قرة عين رسول الله وراحته، وطمأنينته وسعادته، وهي العهد الذي بين المسلمين والكافرين، والعون الذي أمر به ربُّ العالمين، وأخبر أنها ناهية عن الفحشاء والمنكر؛ قال تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وقال: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].
روى ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نُعي إليه أخوه قُثَم، وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحَّى عن الطريق، فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45].
أيها المؤمنون، إن الصلاة من أعظم جوالب الحسنات، وتكفير السيئات، والتخفيف من وطأة المكروهات.
وهي نور للوجوه، وغذاء للأرواح، وشفاء للصدور، ومدعاة للراحة والسرور، ومظهر من مظاهر العبودية والافتقار التي يسمو بها المسلم لدى ربه العزيز الغَفَّار، وهي القاعدة الراسخة التي إذا صلحت أصلحت بناء الحياة لصاحبها، وساقت إليه نواصي الخيرات، وصرفت عنه ثقل الحياة بالمُنغِّصات.
عباد الله، ألستم ترون أن من فضل الله علينا: أن فرض الصلوات خمسًا بلا زيادة، وجعلها قليلة الركعات بلا مشقة، وفرَّق أداءها في أوقاتٍ خمسة، وأمر بإقامتها في أزمنة تناسب المكلفين، فكانت في النهار وفي أول الليل، ولم تكن في وسطه أو آخره حيث سكون الإنسان إلى راحته من عناء نهاره وأعماله فيه، فلله الحمد على نعمته وتيسيره.
ألا وإن من رحمة الله بنا وفضله علينا أيضًا: أنْ جعل مع الصلواتِ الخمسِ نوافلَ ومندوبات من الصلوات؛ تُشوِّق إليها، وتَغسل الروح للدخول بنشاط فيها، وتجبر نقصها، والقصور الذي يحصل من مؤديها؛ فكم يحصل-معشر المسلمين-من إساءة منا في صلاتنا؛ بتأخيرها عن وقتها، وعدم إحسان إقامتها بشروطها وآدابها، وقلة الإتيان بها على خشوعها وكيفيتها التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّلَاةُ، قَالَ: يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ وَعَزَّ لِمَلَائِكَتِهِ -وَهُوَ أَعْلَمُ-: انْظُرُوا فِي صَلَاةِ عَبْدِي: أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ، قَالَ: أَتِمُّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَاكُمْ))[2].
وانظروا-رحمكم الله-في أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام: كم شرع لنا من تطوع الصلوات ونوافلها على صور مختلفة، فكان من ذلك:
أنه شرع لنا نوافل قبل الصلوات الخمس؛ فقبل الفجر شرع ركعتين-وهذه السنة هي خير سنن الصلاة وأفضلها- وشرع أربعًا قبل الظهر، وأربعًا قبل العصر، وركعتين قبل المغرب، وركعتين قبل العشاء، كم شرع لنا نوافل بعد الصلوات الخمس: أربعًا بعد الظهر أو ركعتين، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء.
وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يحافظ على هذه السنن، ويدعو أمته إلى المحافظة عليها، مبينًا الفضل والأجر المترتبين عليها.
ففي صحيح مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِحَدِيثٍ يَتَسَارُّ إِلَيْهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها، تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ))، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ، وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ.
أرأيتم كيف الاتِّباع والانقياد، والمسارعة إلى الخير عند سماعه ومعرفته!
وعند ابن أبي شيبة في مصنفه والنسائي في سننه بسند صحيح عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ؛ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ))، وهذه هي السنن الرواتب وآكدها وأفضلها.
وهذا الفضل-أيها الفضلاء- لعموم هذه النوافل مجموعة، وأما فضلها منفردة، فقد قال رسول الله عليه الصلاة والسلام عن فضل سُنة الظهر: ((مَن يُحافظ على أربعِ ركعاتٍ قبلَ الظهر، وأربعٍ بعدها؛ حَرَّمَه الله على النار))[3].
وأما سُنة العصر فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام في فضلها: ((رَحِمَ اللهُ امرَأً صلَّى قبلَ العصرِ أربعًا))[4].
وأما فضل سُنة الفجر فاسمع يا من تتساهل في أدائها؛ لكونك تصلي الفجر في البيت وتتركها كسلًا، أو تصليها متأخرًا في المسجد فتفتر عن قضائها بعدها: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ)[5].
وعنها رضي الله عنها قَالَتْ: (كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا يُطِيلُ فِيهِنَّ الْقِيَامَ، وَيُحْسِنُ فِيهِنَّ الرُّكُوعَ، وَالسُّجُودَ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ يَدَعُ صَحِيحًا، وَلَا مَرِيضًا، وَلَا غَائِبًا، وَلَا شَاهِدًا فَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ)).
وفي رواية: ((أَمَّا مَا لَمْ يَدَعْ صَحِيحًا وَلَا مَرِيضًا فِي سَفَرٍ، وَلَا حَضَرٍ غَائِبًا وَلَا شَاهِدًا فَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ))[6].
وعنها رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا))[7].
وفي رواية عنها: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ فِي شَأْنِ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ: ((لَهُمَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا))[8].
أيها الإخوة الفضلاء، والصورة الثانية من صورة تشريع نوافل الصلاة هي: الندب إلى صلوات مستقلة عن الصلوات الخمس، منها: قيام الليل، وصلاة الوتر، وصلاة الضحى، وهي صلوات فيها الأجر الكبير، والأثر العظيم على صلاح النفس واستقامة الجوارح وسعادة القلب.
ففي صلاة الليل قال الله تعالى في الأمر بها: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 4]، وقال: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴾ [الإنسان: 26].
وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام في الإعلام بفضلها: ((أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ: الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْل))[9].
وقال أيضًا في بيان حسن عاقبتها، وجميل أثرها: ((عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ))[10].
وفي صلاة الوتر قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأمر بها: ((يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، أَوْتِرُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ))[11].
وفي صلاة الضحى قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبينًا ثمرتها: ((يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى))[12].
وأما الصورة الثالثة من صور تشريع نوافل الصلوات فهي: التنفل المطلق في غير أوقات الكراهة، فقد جاءت الدعوة من النبي عليه الصلاة والسلام إلى كثرة الصلاة في الليل والنهار، فعن رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيّ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ لِي: ((سَلْ))، فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: ((أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟))، قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: ((فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ))[13].
وعن مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيّ، قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللهُ بِهِ الْجَنَّةَ؟ أَوْ قَالَ قُلْتُ: بِأَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ، فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَسَكَتَ، ثُمَّ سَأَلْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً، إِلَّا رَفَعَكَ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً))[14].
عباد الله، لما علم صحابة النبي عليه الصلاة والسلام والصالحون من بعدهم هذا الفضل للتنفُّل بالصلاة؛ سارعوا إلى ذلك، وضربوا أروع الأمثلة في هذا الخير؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلالٍ عِنْدَ صَلاةِ الفَجْرِ: ((يَا بِلالُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِسْلامِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الجَنَّةِ))، قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي: أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طهُورًا، فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ))[15].
وكان مرة بن شرحبيل الهمداني يصلي في اليوم والليلة خمسمائة ركعة، فقيل له حين كبَّر: ما بقي من صلاته؟ فقال: الشطر؛ خمسون ومائتا ركعة[16]، وكان محمد بن عبدالله الرقاشي يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة[17]، وكان هارون الرشيد يُصَلِّي فِي الْيَوْم مائَة رَكْعَة [18].
أرأيتم كيف كان حال الصالحين مع نوافل الصلاة!
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّه بالكرام فلاحُ
نسأل الله أن يجعلنا ممن يسارع إلى الطاعات، ويحافظ على الصلوات فرائضها والمستحبَّات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون، ومع هذا الفضل العظيم الذي سمعتموه، والخير العميم لنوافل الصلوات الذي عرفتموه، إلا أن الإنسان ليعجبُ مِن تساهل بعض المسلمين فيها، وتقاعسهم عنها، مع أنها سهلة يسيرة، وفيها أجور كثيرة.
فنجد من المصلين من يكتفي بصلاة الفريضة وحدها، ويترك سنتها القَبْلية والبَعْدية فيما بعدها سنة، أو يصلي السنة القَبْلية ويدع البَعْدية، أو يصلي البَعْدية ويدع القَبْلية.
وهذا كثيرًا ما يحصل عند الصلاة في البيوت للرجال والنساء والأطفال، وتشاهدون هذا كذلك-أيها المصلون الكرام-من بعض المتأخرين عن الصلاة في المساجد، فقد يدركون الإمام في الصلاة، فيكتفون بالفريضة معه، ولا يصلون السنة القَبْلية بسبب تأخُّرهم، ولو بكروا للصلاة لما فاتهم هذا الخير، وربما تركوا البَعْدية أيضًا مسرعين إلى دنياهم.
مع أنه يستحب قضاء سنة الفريضة إذا فاتت بعدها مباشرة أو بعد خروج وقتها، وهذا من حرص الشريعة على عدم فوات الخير عن المسلم؛ فقد شُغل رسول الله عليه الصلاة والسلام يومًا عن سنة الظهر فقضاها بعد العصر؛ ففي حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: ((يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ، وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ)[19].
ومن مظاهر التساهل في أداء السنن كذلك: أنه إذا حصل جمع بين صلاتي الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء بسبب المطر؛ فإن بعض المصلين يغادر المسجد دون أن يصلي السنة البَعْدية لصلاة الظهر، أو يكتفي بسنة العشاء ولا يضيف لها سنة المغرب، وهذا قصور ملحوظ في المساجد ينبغي تركه، وعلى الأئمة تحذير المصلين منه.
ومن مظاهر التساهل في أداء السنن أيضًا: ترك سنة الجمعة البَعْدية، فكثيرًا ما نجد بعض الناس بعد صلاة الجمعة يتسابقون إلى أبواب المساجد خارجين، من غير أن يأتوا بالأذكار عقب الصلاة، أو صلاة ركعتين أو أربع بعد الجمعة؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين بعد الجمعة، وربما صلى أربع ركعات.
فما أسباب هذا التساهل -يا عباد الله- في سنن الصلوات؟
لعل الجهل بفضلها، وحسنِ أثرها حمل بعض المصلين على تركها.
فهؤلاء يُدعون إلى هذه السنن ويُرغِّبون في فعلها ببيان فضائلها لهم وتعريفهم بكثرة ثوابها، كما ذكرنا في الخطبة الأولى.
وربما كان السبب في هذا التساهل: هو ضعف الإيمان بالله تعالى وقلة العناية بزاد الآخرة؛ فإن الإيمان لو قوي في قلب الإنسان لحثَّه على كل خير لا سيَّما هذا الخير، ومن كان معتنيًا بالآخرة وهي منه على بال فإنه سيحرص على كل زاد ينفعه في ذلك اليوم الذي يتمنَّى فيه المرء الحسنة الواحدة لينجو بها.
فقوُّوا إيمانكم-معشر المسلمين – بالله واليوم الآخر؛ حتى تحافظوا على سنن الصلوات.
ولعل السبب في هذا التساهل أيضًا: هو الانشغال الكبير بأعمال الدنيا وشهوات النفس فيها؛ فكم من مسلم ترك سنن الصلاة أو بعضها استعجالًا على تجارته ووظيفته وجلوس مع قريبه أو صديقه، وآخر ترك السنن إسراعًا إلى شهوة من شهواته كمتابعة فيلم أو مباراة أو برنامج أو مواصلة البقاء مع الجوال وملهياته.
ولو فكر الإنسان في هذه الدنيا وسرعة زوالها، ورحيل النفس عنها وانتقالها، وأن الحياة فرصة واحدة لا تتكرر لاستغلَّ أنفاسها ولحظاتها بما ينفعه في حياة الأبد حياة الآخرة.
﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33].
إخوة الإسلام، لا تظنوا أن التساهل المستمر في ترك سنن الصلاة ليس فيه ضرر كبير، ليس الأمر كذلك، بل فيه ضرر كبير وخطير؛ فإن الاستمرار على صلاة الفريضة وحدها قد يؤدي إلى ترك الفريضة نفسها؛ فإن السنن القَبْلية والبَعْدية هي حراسة الفريضة من أمامها ومن خلفها، فإذا ذهبت الحراسة تعرضت الفريضة للخطر، فكم من متساهل بنوافل الصلاة قاده تساهله إلى تأخير الفريضة عن وقتها، أو صلاة بعض الخمس الصلوات دون بقيتها، وربما تركها كلها بعد ذلك.
ومن مظاهر هذا الضرر: أن تساهل الأبوين في السنن يعلِّم الأولاد التساهل فيها؛ فإن الأطفال مقلدون لآبائهم وأمهاتهم، كما قال الشاعر:
مَشَى الطاوسُ يومًا باعْوجاجٍ
فقلَّدَ شكلَ مِشيتهِ بَنوهُ
فقالَ: علامَ تختالونَ؟ قالوا
بدأْتَ به ونحنُ مقلِّدوهُ
فخالِفْ سيركَ المعوجَّ واعدلْ
فإنا إن عدلْتَ معدِّلوهُ
أمَا تدري –أبانا- كلُّ فرع ٍ
يُجاري بالخُطى من أدَّبوهُ؟!
وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ مِنَّا
على ما كان عوَّدَه أبوهُ
أما عن خسارةِ الحسنات، وتكفيرِ السيئات، وضعفِ زكاءِ النفوس وصلاحها؛ فهذه ضريبة واجبة يدفعها كل مقصِّر في سنن الصلوات.
أيها الأحباب الكرام، احرصوا على سنن الصلوات؛ فإنها لا تأخذ منكم كثيرًا من الأوقات، واستعينوا على حُبِّها والاستمرار على أدائها بمعرفة فضائلها وثمراتها، والتبكير إلى المساجد قبل إقامة الصلاة فيها، والاقتداءِ بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام الذي قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع ذلك كان حريصًا أشد الحرص على النوافل، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْرِعُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَسْرَعَ مِنْهُ إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ، وَلَا إِلَى غَنِيمَةٍ يَغْتَنِمُهَا)[20].
وعلِّموا أولادكم وأهلكم-رحمكم الله-الحرص على نوافل الصلاة بأقوالكم وأعمالكم، واعلموا أن خير صلاة المرء في بيته إلا الفريضة.
فعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا قَضَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا))[21].
وعَنْ صُهَيْبِ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: ((فَضْلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ عَلَى صَلَاتِهِ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ، كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ))[22]. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَهَذَا فِي صَلَاةِ النَّفْلِ".
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتَّبِع أحسنه، ويعمل بكل خير دُعي إليه وعلِمَه.
هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|