10-27-2024, 07:33 PM
|
|
SMS ~
[
+
]
|
|
|
|
القوة في الإسلام (3)
الحمد لله الذي يبدئ ويعيد، خلق السماوات والأرض بالحق وهو على كل شيء شهيد، جعل الشمس ضياء، والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، وهو العزيز الحميد.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ذو العرش المجيد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، رفع الله به أعلام التوحيد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه أولي الرأي السديد، والعمل الرشيد، والتابعين لهم بإحسان من سائر العبيد، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المزيد، أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فالأعمار تُطوى، والأجيال تُفنى، والآجال تقضى، كم من الناس من عاش معنا بالأمس، عاجله أجله قبل اليوم، وكم من الناس من يعيش معنا اليوم لن يمهله أجله إلى الغد.
عباد الله وقفنا في الأسبوعين الماضيين مع القوة وعناصر القوة:
القوة في العقيدة.
القوة في العبادة.
القوة في الأخلاق والمعاملة.
القوة في ضبط النفس والتحكم في الشهوات.
القوة في العدة والعتاد.
القوة في العمل والحرفة.
القوة في البدن.
القوة في العمل والإنتاج.
قد يسأل سائل لماذا الكلام عن القوة وعناصرها وما صفات المؤمن القوي.
عباد الله: إن المؤمن القوي هو عماد الرسالات وروح النهضات ومحور الإصلاح، أعِدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب القوي، وضَع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية فلن يقوم المنهج إلا بالمعلم القوي الذي يقوم بتدريسه.
سقطت دول تملك السلاحَ بكل الأنواع لكنها لا تملك الرجال الأقوياء، وانتصرت مقاومة بأقوياء الرجال مع أنها لا تملك من السلاح إلا القليل، ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.
إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، والتربية ليست في صفحات الكتاب بقدر ما هي في روح المعلم.
أيها المسلمون، نتكلم عن القوة لأن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى زرع القوة في أفرادها دينًا وعلمًا وخلقًا.
لان الأمة تحتاج اليوم إلى المؤمنين الأقوياء الذين يحملون في قلوبهم قوة نفسية، تحملهم على معالي الأمور وتبعدهم عن سفسافها، قوة تجعل أحدهم كبيرًا في صغره، غنيًا في فقره، قويًا في ضعفه، قوة تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه، يعرف واجبه نحو نفسه ونحو ربه ونحو بيته ودينه وأمته.
نتكلم عن القوة لان الأمة تحتاج اليوم لأن ترى انتصارات أبنائها في ميادين النفوس قبل ميدان المعركة، فمن انهزم في ميدان النفوس سيخذلنا في ميدان المعركة، ومن خارت قواه أمام الشهوات فسيخذلنا في الجبهات، ومن هزم في ميدان "حيَّ على الصلاة" فسيًهزم قطعًا في ميدان "حي على الكفاح".
نريد أن يمتلئ المجتمع بالنفوس القوية والتي تتعالى على شهواتها، وتنتصر على رغباتها، وتتحول إلى نفوس مجندة لخدمة هذا الدين، وليس هذا فحسب، بل نريد القوة المتكاملة بجوار قوة الدين والنفس، نريد قوة البدن وصلابته، ونريد قوة العقل وحدّته، وقوة الأخلاق والمعاملة وقوة العلم والمعرفة.
سنقف وإياكم مع مصادر القوة عند المؤمن:
من أين يستمد المؤمن قوته؟ ما هي المصادر والمنابع التي يتغذى منها المسلم ليكون قويا ً يواجه كل الصعاب.
المؤمن قوي لأنه مؤمن بخمسة أمور:
أولها الإيمان بالله:
المؤمن قوي، لأنه يستمد قوته من الله العلي الكبير، الذي يؤمن به، ويتوكل عليه، ويعتقد أنه معه حيث كان، وأنه ناصر المؤمنين، وخاذل المبطلين، ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 49] عزيز لا يذل من توكل عليه، حكيم لا يضيع من اعتصم بحكمته وتدبيره.
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].
قوة الإيمان والتوحيد تعني.. توحيد لا إشراك معه.. توحيد لله عز وجل في المقاصد والمشاعر، فلا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا توكل إلا عليه، ولا إنابة إلا إليه، ولا ثقة إلا به..
يوم يتحقق كل مؤمن في ذات نفسه بذلك.. يوم يجرّد مقصده وغايته لله.. يوم لا يخشى أحد سواه.. يوم يكون ذلك في أبناء الأمة ومجتمعاتها فلن تستطيع قوةٌ في الأرض أن تغلبها، ولا أن تهزمها، ولا أن تنال منها شيئاً، مهما كان صغيراً أو كبيراً.
قوي الإيمان والتوحيد تراه متميّز يشمخ بإيمانه في غير كبر، ويستعلي بإسلامه دون عجب، ويظهر شخصيته، ويفتخر بانتسابه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يميل مع شرق، ولا يحاذي غرباً، ولا يكون مع النصارى في ولاء، ولا مع اليهود في استحذاء.
علِم قيصر الروم من أخبار جند المسلمين، وما يتحلون به من صدق الإيمان، ورسوخ عقيدة، واسترخاص للنفوس في سبيل الله، وصبر وبذل للمُهَج والأرواح في سبيل الله، فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حيًا ويأتوه به، وشاء الله جل وعلا أن يقع في الأسر عدد من المسلمين من بينهم صحابي جليل[1] قد أدرك معنى العبودية لله عز وجل فتخلص من رقِّ المخلوقين، فلا تراه إلا وهو يصوم النهار، ويتلو القرآن، يقوم في جنح الليل، ويستغفر بالأسحار، فقليل ما يهجع، راقبوه، فرأوا من تقاه وصلاحه وصلابته ورجولته وعقله ورزانته ما أدهشهم، ورأوا إن كسبوه لدينهم أنهم حققوا نصرًا عظيمًا، وكسبًا عظيما، ذكروه لقيصرهم فقال: ائتوني به، فجاءوا به، نظر إليه قيصرهم فرأى فيه عزة واستعلاء المؤمن، ونجابة الأبطال، فبادره قائلا: إني أعرض عليك أمرًا، قال: ما هو؟ قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات هيهات، إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه، هيهات، أنى لقلوب خالطتها بشاشة الإيمان أن تعود إلى ظلمات الكفر والضلال مهما كانت الإغراءات، أنى لقلوب عرفت النور بحق أن تتدثر بالظلام مرة أخرى مهما كانت المغريات، يفشل العرض الأول من هذا القيصر ويتحطم على صخرة الإيمان؛ لأن هذا الرجل امتلأ قلبه بعبودية الله، فلم يبقَ في قلبه متسعٌ لغير تلك العبودية، بدأ بالإغراءات فقال قيصرهم: لو تنصرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني -يريدون أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، يريدون أن يُصرف عن عبودية الله إلى رق المركز الذي طالما سال له لعاب كثير من الناس، فضيّعوا حقوق الله في سبيل نيله، وباعوا دينهم بعرضٍ من الدنيا قليل.
هربوا من الرقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ
فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ
فقال رضي الله عنه مبتسما في قيده: «اخسأ عدو الله، والذي لا إله إلا هو لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه العرب والعجم على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما رضيت»، الله أكبر، يتحطم الإغراء بالمركز على صخور الإيمان الشُّمِّ في نفس ذلك الصحابي، لماذا؟ لأنه طالب جنة، ولا يمكن أن يغرى بما هو دون الجنة، وليس بأيديهم ما هو أعلى من الجنة ليغروه به، فأنى لهم أن يصلوا إليه، إنها سلعة الله، غالية جد غالية، مهرها بذل النفس والنفيس لمالكها الذي اشتراها من المؤمنين، لقد أقيمت للعرض في السوق لمن يريد، وقيل: هل من مزيد، فلم يرضَ لها بثمن دون حبل الوريد، عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فورًا لتداول الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ليكون من جند النصارى -وحقًا إنه كسب- وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فلكم رأوا ولكم رأينا ولكم نر من أُناس يعبدون الشهوة، فينفقون أموالهم في الشهوة المحرَّمة؛ لتكون عليهم حسرة وبئس الإنفاق، يسافرون وراء الشهوة المحرمة وبئس السفر والركب، يبيعون دينهم في سبيل الشهوة المحرمة وخسر البيع، والنار حُفّت بالشهوات وهم يتهافتون إليها وساء التهافت، عُبَّاد شهوة وبئس العبيد.
قال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بملكة جمال البلاد كما يقولون، وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ لأن الفاحشة طريق إلى ترك دينه، ولك أن تتصور أخي الحبيب، لك أن تتصور ما حال هذا الرجل، شاب في كامل فتوته ورجولته وشبابه وقوته وفوق ذلك غائب عن أهله منذ شهور، وهذا عامل يجعلهم يتفاءلون، أدخلوها عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء المترتب على التجرد من الإيمان، ولا ذنب بعد كفر، قامت تعرض نفسها أمامه، ثم ترتمي في أحضانه، فيهرب منها قائلا: معاذ الله، معاذ الله، فتطارده ويتجنبها، ويغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، ويقرأ القرآن ويستعيذ بالرحمن ولسان حاله ومقاله: رب القتل أحب إليَّ مما تدعوني إليه، وإلا تصرف عني كيدها أصْبُ إليها وأكن من الجاهلين، تتابعه من جهة إلى جهة، وهو يستعيذ بالله الذي ما امتلأ قلبه إلا بعبوديته حتى يئست منه، نَقَلَة الأخبار على الباب من شياطين الإنس ينتظرون خبر فتنة ذلك الصحابي ووقوعه في الفاحشة لينقلوه إلى الآفاق شماتة في الإسلام وأهله، وإعلانًا لانتصارهم في صرفه عن دينه، ولعل غيره يتبعه في ذلك ﴿ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217] وإذا بها تصيح أخرجوني أخرجوني، فأخرجوها قد تغير لونها، فشلت مهمتها، كرتها خاسرة عاهرة فاجرة، سألها مَن عند الباب من نقلة الأخبار: ما الذي حدث؟ هاتِ البشرى، يريدون أن يطيروا بالخبر، قالت: والله ما يدري أأنثى أنا أم ذكر، ووالله ما أدري أأدخلتموني على حجر أم على بشر. الله أكبر الإغراء بالشهوة يخجل أمام عبودية الله التي ما تركت متسعًا لغيرها في قلبه. كيف يرضى طالب الحور العين بعاهرة فاجرة، ولذة قد يعقبها الهاوية؟ كيف يرضى وقد وُعِدَ بمن لو اطلعت إحداهن إلى أهل الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحًا ولأضاءت ما بينهما؟ كيف ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها؟ كيف وقد وعد بمن ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة؟ كيف وقد وعد بمن أدنى لؤلؤة عليها تضئ ما بين المشرق والمغرب؟ كيف وقد وعد بمن يكون عليها سبعون ثوبًا ينفذ البصر حتى يرى مخَّ ساقها من وراء اللحم والدم والعصب والعظم؟ كيف وقد وعد بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. خاب من باع باقيًا بفانٍ، خاب من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة. هنا يقول قيصرهم: إذًا أقتلك، انتقل الأمر إلى التهديد وأنى لمؤمن امتلأ قلبه بعبودية الله أن يخشى تهديدًا دون نار جهنم إنه هارب من النار وما هناك تهديد بما هو أعظم من النار؛ فكل تهديد دونها ولا شك.
قال رضي الله عنه: أنت وما تريد، افعل ما بدا لك، فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه ورجليه وهو يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى، فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم ويصب فيها الزيت، ويوقد تحتها النار حتى أصبح الزيت يغلي، ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما يتفتت وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع بشع وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا الصحابي وإلى بغيتهم منه، التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية فكان أشد إباء من ذي قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القدر مع صاحبيه، فلما ذهب به دمعت عيناه، فظنوا أنه قد جزع وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، قال: ويحك فما أبكاك؟ قال: أبكاني أن قلت في نفسي إنما هي نفس تلقى الآن في هذا القدر فتذهب، وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله، لا إله إلا الله، والله أكبر، ويا لها من قلوب امتلأت بخشية الله وعبودية الله! لم يترك فيها فراغًا لوعد أو وعيد دون الجنة أو الجحيم، عندها ردوه إلى الأسر ووضعوا معه خمرًا ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام والشراب، وبقي ثلاثة أيام يراقب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم يفعل، وانثنت عنقه رضي الله عنه وأرضاه- مالت عنقه من شدة الجوع والعطش وأشرف على الهلاك، فأخرجوه وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب، فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن والذي لا إله إلا هو لقد كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله، لسان حاله:
فَيَا أيُّها الكونُ منِّي اسْتَمِعْ
ويا أُذُنَ الدَّهرِ عنِّي افهمِي
فَإِنِّي صريحٌ كَمَا تَعْلَمِين
حريصٌ عَلَى مَبدأ قِيِّم
ومَهْما تعدَدَتِ الواجهاتُ
فَلَستُ إلَى وِجْهَةٍ أنْتَمِي
سِوَى قِبلة المُصطَفَى والمَقامِ
لأَرْوِى الحُشَاشَةَ مِنْ زَمْزَمِ
وأُشهدُ مَنْ دبَّ فوقَ الثَرَى
وتحتَ السَّمَا عزةَ المُسْلِمِ
يا لها من كلمة! كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله، هذه الكلمة أهديها إلى أحبتنا الذين يخجلون من مواجهة الناس بالتزامهم، تجده يوم تلاحقه أعين السفهاء بالهمز والغمز واللمز يمشي على خجل وعلى استحياء، يتوارى من القوم ليشمت غيره به، إن حامل الحق يجبر غيره على أن يخجل منه أو يموت بغيظه فينتبه لذلك وليكن لسان الحال:
أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى
وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي
كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله، فقال له القيصر معجبًا بثباته ورشده وقوة عقله ولبِّه: هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك، وكانوا لا يعيشون لأنفسهم، قال: وعن جميع أسرى المسلمين، قال: وعن جميعهم، فقال يسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يُقتلوا، لا ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى وأجازه بثلاثين ألف دينار وثلاثين وصيفًا وثلاثين وصيفة كما روى [ابن عائد] في السير [للذهبي]، وقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- بأسرى المسلمين ثابتًا كالطود الشامخ، يطأ بأخمصه الثرى، وهامه توازي الثريَّا، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم سرور، ثم قام فقبَّل رأسه وقال: حقٌّ على كل مسلم أن يُقبّل رأسك، إنها النفوس المؤمنة يوم تجاهد في سبيل الله، لا في سبيل قول، ولا في سبيل نفس، ولا في سبيل وطن، بل في سبيل الله؛ لتحقيق منهج الله في أرض الله في سبيل الله؛ لتنفيذ شرع الله على عباد الله، ليس لها لنفسها حظ، بل كلها لله الواحد القهار. لا يخافون لومة لائم. وفيم الخوف من لوم الناس وقد ضمنوا حب وعبودية رب الناس؟
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا وأستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدّله وعلّمه البيان وبه فضّله وأمدّه بلسان يترجم به عما حواه و عقَلَه، والصلاة والسلام على من أرسله ربه و أكرمه وبالقرآن الكريم أرسله، وعلى آله وأصحابه ما كبّر عبد وهلّله.
وبعد:
يذكرنا موقف عبد الله بن حذافة السهمي بكثير من مواقف الصحابة رضوان الله عليهم بل ومن أجيال الأمة الإسلامية كلها، يوم ثبتوا ثبات الجبال الرواسي رغم ضعفهم، ورغم قلة حيلتهم، ورغم انعدام قوتهم. كما وقفت ثلاثة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مؤته في مواجهة مائة ألف - وقيل مائتين - أنى لهم أن يقفوا! وكيف يمكن أن يثبتوا؟ ولما رأى المسلمون جموع الروم - الجموع الكبيرة - نظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فقام ابن رواحه فقال: والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون، وما نقاتل الناس بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما الشهادة، فما تأخر واحد منهم.
والتقى الجيشان والتحم الصفان وسقطت رؤوس وطارت جماجم وسالت دماء ونادى المنادي أن انتصر المسلمون. الله اكبر إنها معادلة الإيمان التي فقدنا كثيراً من حقائقها ودلائلها. قتل من الروم آلاف وقتل من المسلمين اثنا عشر رجل.
عباد الله: ما هي القوة التي نعتمد عليها؟ أليست قوة الله! من هو الذي نلجأ إليه في السراء والضراء؟ أهو الله؟! من الذي نفضي إليه بهمومنا وغمومنا؛ هل هو الله أم ما زالت أحوال أمتنا ودولنا تبحث عن سند هنا أو هناك، وتبحث عن قوة من هذا أو ذاك؟! ونسوا الاستعانة بالله ﴿ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ﴾ [الأعراف: 128] أين هي الاستعانة بالله في واقع حياتنا اليومية البسيطة؟ عندما نمرض هل تتحقق استعانتنا بالله؟! عندما يُضَيَّق في رزقنا ويقتر علينا في عيشنا بقدر الله هل نستعين بالله؟ هل القلوب مملوءة بهذا اليقين: أن الأمر كله لله، وأن الخير والشر والضر والنفع إنما هو بيد الله؟!
عباد الله:
اسعد الناس في هذه الدنيا أقوى الناس اتصالا بالله.
أقوى الناس في مواجهة الفتن والمصائب إنهم أكثر الناس إيمانا بالله وتحديا له وتعظيما له.
عناصر التوحيد والإيمان بالله كما جاء بها القرآن الكريم, ثلاثة ذكرتها سورة الأنعام, وهى سورة عنيت بتثبيت أصول التوحيد:
أولها: ألا تبغي غير الله رباً: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ﴾[الأنعام: 164].
وثانيها: ألا تتخذ غير الله ولياً: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14].
وثالثها: ألا تبتغي غير الله حكماً: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ﴾[الأنعام: 114].
معنى العنصر الأول: «ألا تبتغى غير الله رباً»: إبطال الأرباب المزعومة التي اتخذها الناس قديماً وحديثاً, في الشرق والغرب, سواء أكانت من الحجر والشجر أم من الفضة والتبر, أم من الشمس والقمر, أم من الجن والبشر, معنى العنصر الأول هو رفض لكل الأرباب إلا الله وإعلان الثورة على المتألهين في الأرض المستكبرين بغير الحق، الذين أرادوا أن يتخذوا عباد الله عبيداً لهم وخولاً. «لا إله إلا الله» هو الإعلان العام لتحرير الإنسان من الخضوع والعبودية, إلا لخالقه وبارئه. فلا يجوز أن تعنو الوجوه, أو تطاطئ الرؤوس، أو تنخفض الجباه, أو تخشع القلوب, إلا للقيوم وكانت كلمة: «ربنا الله» إعلاناً بالعصيان والتمرد على كل جبار في الأرض. ومن أجل هذا تعرض موسى للتهديد بالقتل، وقام رجل مؤمن من آل فرعون يدافع عنه ويقول: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ ﴾[غافر: 28] ومن أجل ذلك تعرض رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه للاضطهاد والأذى والإخراج من الديار والأموال﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾[الحج: 40].
ومعنى العنصر الثاني «ألا تتخذ غير الله ولياً»: رفض الولاء لغير الله وحزبه، فليس من التوحيد أن يزعم زاعم أن ربه هو الله، وربما لأعداء الله. قال تعالى: ﴿ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾[آل عمران: 28].
إن حقيقة التوحيد لمن آمن بأن ربه هو الله: أن يخلص ولاءه له ولمن أمر الله تعالى بموالاته، كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [المائدة: 56].
ومعنى العنصر الثالث: «ألا تبغي غير الله حكماً»: رفض الخضوع لكل حكم غير حكم الله، وكل أمر غير أمر الله، وكل نظام غير نظام الله، وكل قانون غير شرع الله، وكل وضع أو عرف أو تقليد أو منهج أو فكرة أو قيمة لم يأذن بها الله.
وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تموت فيه أخلاق القوة، فتحيا وتنمو أخلاق الضعف. وليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يشيع فيه خلق القسوة على الضعفاء، والخضوع للأقوياء.
ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تضمر فيه تقوى الله، ومراقبته تعالى، والخوف من حسابه، فنرى الناس يتصرفون وكأنما هم آلهة أنفسهم، وينطلقون وكأنما ليس هناك حساب ينتظرهم، وإنما هم في غفلة معرضون، وفي غمرة ساهون.
ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يسوده التواكل والعجز والسلبية، في مواجهة الأمور وإلقاء الأوزار على كاهل الأقدار.
ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يُهان فيه الصالحون، ويُكرم الفاسقون، ويُكرم أهل الفجور، ويؤخر أهل القوى.
ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي يظلم فيه المحق، ويحابى فيه المبطل، ويقال فيه للمضروب: لا تصرخ، ولا يقال للضارب: كف يدك.
ليس بمجتمع مسلم ذلك الذي تفسد فيه الذمم، وتشترى فيه الضمائر، ويقضى فيه كل أمر بالرشوة.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
10-27-2024, 07:42 PM
|
#2
|
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
10-27-2024, 07:42 PM
|
#3
|
جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
10-27-2024, 07:42 PM
|
#4
|
جزاك الله خيـر
وبارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
10-27-2024, 07:42 PM
|
#5
|
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
10-27-2024, 07:42 PM
|
#6
|
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
10-27-2024, 07:42 PM
|
#7
|
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
10-27-2024, 07:42 PM
|
#8
|
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 07:25 AM
| | | | | | | |