نفق الدرعية .. شريان المستقبل والماضي أمام نظرية آينشتاين
يمكن لأي جسم يتحرك بسرعة الضوء أن يكون قادرا على السفر إلى المستقبل، أما السفر إلى الماضي فأمر مستحيل، تلك نظرية العالم الفيزيائي العبقري ألبرت آينشتاين. بيد أن تلك النظرة قابلتها عملية هندسية بارعة بأياد سعودية والآلاف من العمالة الماهرين من حول العالم، حيث شهدت الرياض أخيرا افتتاح نفق الدرعية الذي حقق المستحيل بربطه المستقبل بالماضي.
بعد سبعة ملايين ساعة من العمل، يتوقع أن يسمح نفق الدرعية بمرور أكثر من عشرة آلاف مركبة في الساعة، وهو الواقع في مخرج 38 بطريق الدائري الغربي للعاصمة، ويمتد طوله 435 مترا فيما يضم ثمانية مسارات، بلا شك سيحقق النفق الجديد كثيرا بربط لا مثيل له، حيث إنه لن يستغرق التنقل بين المستقبل الذي تتبناه الرياض برؤية 2030، سوى دقائق بوساطة السيارة، نحو الدرعية وتاريخها الممتد لنحو ثلاثة قرون.
تمثل الدرعية، بداية حقبة زمنية خلدها التاريخ، حيث تضم حي الطريف المدرج بقائمة اليونيسكو للتراث العالمي وبه قصر سلوى الذي كانت تدار منه شؤون الدولة السعودية الأولى، وهناك جامع الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي خرج منه الآلاف من طلاب العلم الأوائل، أما في السريحة وغصيبة فستعرف كيف كانت حياة الأجداد بمطالعة بيوتهم المبنية على الطراز النجدي، ومزارعهم وأسوارهم التي شيدوها بالصخور.
ورغم اتخاذ الإمام تركي بن عبدالله، الرياض التي تبعد عن الدرعية بنحو 20 كيلومترا، عاصمة للدولة السعودية الثانية، وهو ما سار عليه الملك عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - بعد ذلك، لكن ظلت الدرعية لها مكانة خاصة، يدل على ذلك حرص الملك المؤسس على زيارة الدبلوماسيين الأجانب لها، ففي مذكراته يقول الدبلوماسي البريطاني جيرارد ليتشمان، وهو أول من التقط صورة معروفة للدرعية عام 1912 "وصلنا حافة وادي حنيفة ووقفنا أمام أنبل أثر في الأراضي السعودية، فهذه صخرة ضخمة تقع فوق نتوء ضخم بيضوي الشكل يقع بدوره في منتصف وادي حنيفة، قاعدة تلك الصخرة تشبه الشرفة التي تطل عليها المدينة، توجد حقول القمح كما تحيط بها مزارع النخيل".
حافظ ملوك آل سعود على مكانة الدرعية، لكن ثمة علاقة خاصة جمعت بين المدينة التاريخية وبين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - وهو المعروف بشغفه بعلوم التاريخ والتراث والثقافة، ولذلك أولى الدرعية اهتماما خاصا بدأ منذ نحو نصف قرن إبان توليه إمارة منطقة الرياض وترؤسه هيئة تطوير مدينة الرياض التي بدأت برامج تطوير الدرعية، وكان ثمار ذلك إعلان حي الطريف موقع تراث عالمي من قبل اليونيسكو عام 2010، وفي عام 2017 أنشأ هيئة تطوير بوابة الدرعية لتكون مسؤولة عن المدينة، وتأكيدا لذلك جعلها إحدى ركائز رؤية المملكة 2030 إذ يتم استهداف استقطاب 29 مليون زائر لها في عام تحقيق الرؤية.
منذ تلك اللحظة، دارت آلة المشروعات التي تبلغ تكلفتها بحسب جيري إنزيريلو، الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير بوابة الدرعية 63 مليار دولار، وهي مشروعات ستتنوع بين وحدات سكنية ومولات للتسوق وفنادق فاخرة وجامعات ومنتجعات، وإذا كان ذلك هو المستهدف، فما تحقق يؤكد أن الحلم صار وشيكا، ففي 2019 انطلق موسم الدرعية ليحول المدينة إلى وجهة عالمية بفعاليات مثيرة مثل "نزال الدرعية" و"فورمولا إي الدرعية" وغيرهما، وكانت النتيجة استقبال مليون زائر عام 2023.
وفي 27 يناير 2022 أصدر الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - أمرا ملكيا بتحديد 22 فبراير من كل عام ذكرى ليوم تأسيس الدولة السعودية الأولى، ما أسهم في ترويج الدرعية أكثر كونها عاصمة تلك الدولة، وأكمل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - المسيرة بإعلانه في يناير 2023 أن مشروع تطوير الدرعية أصبح خامس المشروعات الكبرى المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، مؤكدا أنه سيصبح من المشروعات الفريدة من نوعها، وحتى يكتمل تلألؤ الـ"جوهرة" بعد أعوام قليلة، فالأكيد الآن أن أول المستفيدين من النفق الجديد هم عشاق فعاليات موسم الدرعية سواء لياليه الساحرة أو سباقاته المثيرة وأسواقه الغنية، فالآن أصبح الطريق إلى المتعة أسهل وأسرع.