من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في السلام (4)
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا كثيرًا يوازي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، وعلى سائر عباد الله الصالحين.
وبعد:
الإخوة والأخوات الكرام حياكم الله وبياكم وجعل الفردوس الأعلى مثواي ومثواكم، أحيطكم علمًا أن هذا هو اللقاء الرابع في الحديث عن/ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام، سائلًا اللهَ تبارك وتعالى أن ينفع به، وأن يصلح نوايانا واياكم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
آخر ما سُمِعَ من كلامه صلى الله عليه وسلم:
عن عباد بن عبد الله بن الزبير، أن عائشة، أخبرته أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت، وهو مسند إلي ظهره يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ»[1].
قال ابن بطال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن تمنى الموت عند نزول البلاء بهم وأمرهم أن يدعوا بالموت ما كان الموت خيرا لهم... أما قول النبي "اللَّهُمَّ أَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ"، فإنما قال ذلك بعد أن علم أنه ميت في يومه برؤية الملائكة المبشرة له عن ربه بالسرور الكامل ألا تسمعه يقول لابنته فاطمة حين ندبته: "لَا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ" فكانت نفسه مفزعة في اللحاق بكرامة الله تعالى[2].
وفي رواية لابن ماجه، قالت عائشة رضي الله عنها: لما ثقل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه أخذت بيده فجعلت أمسحه وأقولها، فنزع يده من يدي، ثم قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى» قَالَتْ: فَكَانَ هَذَا آخِرَ مَا سَمِعْتُ مِنْ كَلَامِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»[3].
فلما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين الدنيا وبين لقاء ربه، فاختار لقاء ربه، قال ابن القيم: أمره سبحانه بالاستغفار في نهاية أحواله، وآخر أمره، على ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - مقاما وحالا، وآخر ما سمع من كلامه عند قدومه على ربه: "اللهم اغفر لي، وألحقني بالرفيق الأعلى"، وكان - صلى الله عليه وسلم - يختم على كل عمل صالح بالاستغفار[4].
كلامه صلى الله عليه وسلم مع قتلى بدر من الكفار الذين طرحوا في القليب[5]:
عن قتادة، قال: ذكر لنا أنس بن مالك، عن أبي طلحة، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، وَيَا فُلاَنُ بْنَ فُلاَنٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» قال: فقال عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم، قوله توبيخا وتصغيرا ونقيمة وحسرة وندما[6].
قال القاضي عياض: يحمل عليه سماع هؤلاء هو ما يحمل عليه سماع الموتى فى سائر أحاديث عذاب القبر وفتنته التي لا مدفع فيها، وذلك بإحيائهم أو إحياء جزء منهم يعقلون به ويسمعون، ويجيبون في الوقت الذي يريده الله تعالى[7].
وقوله "والذي نفسي بيده" هو قسم كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقسم به والمعنى أن أمر نفوس العباد بيد الله أي بتقديره وتدبيره [8].
اختياره صلى الله عليه وسلم ما يلفت الانتباه ويحرك العقول:
عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟» قال قلنا: الذي لا يولد له، قال: «لَيْسَ ذَاكَ بِالرَّقُوبِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا» قال: «فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قال قلنا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: «لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»[9].
الرَّقُوبَ: أصل الرقوب في كلام العرب الذي لا يعيش له ولد.
الصُّرَعَةَ: الصرعة أصله في كلام العرب الذي يصرع الناس كثيرا.
يَمْلِكُ نَفْسَهُ: يقهر نفسه ويتصرف فيها تصرف المالك فإذا ملكها كان قد قهر أقوى أعدائه وشر خصومه.
قال ابن الجوزي: دلهم بهذا الحديث على النظر إلى المعاني دون الصور، لأنهم ألفوا في كلامهم أن الرقوب الذي يفقد أولاده، فأخبرهم أنه الذي يفقد ثواب أولاده في الآخرة. ولما عرفوا أن الصرعة الذي لا يصرعه الرجال أخبرهم أن الشدة في ملكة النفس[10].
وجملة القول عن كلامه صلى الله عليه وسلم:
كان صلى الله عليه وسلم أبرع الناطقين فصاحة، وأبلغهم تأثيرا في النفوس، ملك أساليب البيان، وبلاغة الخطاب، وقوة العبارة، كان يتخير صلى الله عليه وسلم الكلمات التي تلفت انتباه السامع وتجدد نشاطه، وتحمله للإصغاء، وتأخذ بعقله وقلبه.
ختامًا:
أسأل الله أن يوفقكم لما يحبه ويرضاه، وأن يسددكم في أقوالكم وأعمالكم، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|