من أخلاق معركة بدر الكبرى: الشجاعة
غزوة بدر من أولها لآخرها عَرْض متواصِل لمواقف نادرة، تَدلُّ على شجاعة متناهية، فالدخول في معركة مع عدو متفوِّق بشكل كبير، متضاعِف في كلِّ أسباب الانتصار المادي - هو بلا شك موقف شجاع.
وتَقدُّم الفُرسان لمبارزة فرديَّة في أول المعركة، وحسمها لصالح المسلمين - من مواقف الشجاعة كذلك.
وسأذكر هاهنا موقفين أظنهما كافيين لإبراز تَمكُّن ذلك الخُلُق الكريم من نفوس المؤمنين:
الرسول الكريم والقائد العظيم لم يكن يكتفي بمقام القيادة العسكريَّة والرُّوحية، بل كان يُشارِك بنفسه في القتال، ليس ذلك فقط، بل كان صلى الله عليه وسلم في أول الصفوف القريبة من العدو، يُقدِّم نموذجًا حيًّا للشجاعة والبطولة والإقدام، ولقد شَهِد له بذلك بطل من أشجع الشجعان، وهو علي بن أبي طالب، وما أدراك ما علي في بطولته وشجاعته وإقدامه؟! ورُغْم ذلك قال: "لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا للعدو، وكان من أشدِّنا يومئذٍ بأسًا"[2].
وشهادة أخرى قدَّمها عليٌّ للرجل الثاني في هذه الأمة، وهو الصدِّيق رضي الله عنه، فقد خطب عليٌّ في الناس ذات يوم فقال: "يا أيها الناس، من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: إني ما بارزتُ أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر؛ إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشًا، فقلنا: مَن يكون مع رسول الله؛ لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا وأبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله، لا يهوي إليه أحد المشركين إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس"[3].
فهذه هي شجاعةُ المسلمين على مستوى القادة والأسياد والكبراء، أما على مستوى الرعية، فإليك هذا الموقف الذي يحكيه عبدالرحمن بن عوف عن غلامين صغيرين قال:
"بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرتُ عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنَّيتُ أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عمِّ، هل تعرف أبا جهل؟ قلتُ: نعم، ما حاجتك إليه يا بن أخي؟ قال: أُخبِرتُ أنه يَسُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يُفارِق سوادي سوادَه، حتى يموت الأعجلُ منا، فتعجَّبتُ لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مِثْلها، فلم أَنشَب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إنَّ هذا صاحبكما الذي سألتماني.
فابتدَراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرَفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبَراه.
فقال: ((أيكما قتَله؟))، قال كلُّ واحد منهما: أنا قتلتُه، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟))، قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: ((كلاكما قتَله، سَلَبُه لمعاذ بن عمرو بن الجموح))، وكانا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح"[4].
فهذان غلامان حديثا السنِّ يُصِران في شجاعة نادرة على التصدي لرأس الكُفْر وقائد جيش الكفار، ويَخترِقان الصفوفَ، وقد عاهَد كلٌّ منهما ربَّه، إما أن يقتل أبا جهل، وإما أن يُقتَل دونه.
فهذه هي شجاعة الغِلْمان في جيش المسلمين، وقد كان كثير منهم يطلبون الالتحاقَ بالجيش والمشاركة في القتال، فيَرُدهم الرسول؛ لصِغَرهم، مثل: عبدالله بن عمر، والبراء بن عازب رضي الله عنهم جميعًا[5].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|