فتح النوبة ومعاهدة البقط
فتح المسلمون مصر في عهد الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على يد عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، غير أن منطقة النوبة جنوب مصر استعصت على المسلمين، ونجد أن أسفل جنوب مصر منذ عهد الملوك الفراعنة كان منطقة يصعب السيطرة عليها، بل وربما اتفق لأحد الملوك السيطرة عليها ووضع وال عليها، فما يلبث أهل النوبة أن يتمردوا على واليهم، ويجاهرون بالعصيان والتمرد على حاكم مصر، فيرسل إليهم الملك الحملات التأديبية لإرغامهم.. ولو إلى حين!
وروى الواقدي أن المسلمون عندما دخلوا مصر أرسلوا "عقبة بن نافع الفهري" في حملة إلى بلاد النوبة لإخضاعها، غير أن المسلمين لاقوا عناء شديدًا في تلك الحملة من جراء مهارة أهل النوبة في الرمي بالسهام والنبل، حتى أنهم أصابوا كثير من المسلمين في أحداقهم، وانصرف المسلمون بجراحات كثيرة وحدق مفقوءة، وسموا "رماة الحدق".
فعن الواقدي قال:
حدثنا ابراهيم بن جعفر عن عمر ابن الحارث عن أبى قبيل حيى بن هاني المعافرى، عن شيخ من حمير قال: "شهدت النوبة مرتين في ولاية عمر بن الخطاب، فلم أر قومًا أحد في حرب منهم.
لقد رأيت أحدهم يقول للمسلم: أين تحب أن أضع سهمي منك؟ فربما عبث الفتى منا فقال: في مكان كذا، فلا يخطئه، كانوا يكثرون الرمى بالنبل فما يكاد يرى من نبلهم في الأرض شيء.
فخرجوا إلينا ذات يوم فصافونا ونحن نريد أن نجعلها حملة واحدة بالسيوف، فما قدرنا على معالجتهم.
رمونا حتى ذهبت الأعين فعدت مئة وخمسون عينًا مفقوءة.
فقلنا: ما لهؤلاء خير من الصلح، إن سلبهم لقليل وإن نكابتهم لشديدة" ا.هـ.
وتمخض عن هذه الحملة مهادنة بين أهل النوبة والمسلمين، لما رأى المسلمون بعد خبرتهم بالقتال، ولبعد أراضيهم وصعوبة تضاريسها، حتى ولي على مصر عبدالله بن سعد بن أبي سرح في عهد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، فنقض النوبيون الصلح وهاجموا صعيد مصر، فخرج عبد الله بن أبي سرح بجيش تعداده عشرون ألفًا وتوغل في بلادهم جنوبًا ووصل عاصمتهم دنقلة فحاصرها حصارًا شديدًا ورماها بالمنجنيق وضيق على أهلها حتى اضطروا للتسليم، وطلب ملكهم "قليدور" الصلح، وخرج إلى عبد الله ابن أبي سرح، وأبدى ضعفًا وتواضعًا فتلقاه عبد الله وقرر الصلح معه وعقدت بين الجانبين معاهدة، كان لها عظيم الأثر على عملية انتشار الإسلام في شرق القارة الإفريقية، وكان ذلك في شهر رمضان من سنة إحدى وثلاثين هجرية.
وجاء في هذه المعاهدة:
"عهدٌ من الأمير عبد الله بن سعد بن أبي سرح لعظيم التوبة ولجميع أهل مملكته: عهد عقده على الكبير والصغير من النوبة، من أرض أسوان إلى حد أرض علوة أن عبد الله جعل لهم أمانًا وهدنة:
إنكم معاشر النوبة آمنون بأمان الله وأمان رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا نحاربكم، ولا نَنْصُبَ لكم حربًا، ولا نغزوكم ما أقمتم على الشرائط التي بيننا وبينكم".
ثم يعدد العهد الشرائط تلك ومنها:
• عليكم حفظ من نزل بلادكم أو يطرقه من مسلم أو معاهد حتى يخرج عنكم.
• وعليكم رد من لجأ إليكم من مسلم محارب للمسلمين وأن تخرجوه من بلادكم.
• وعليكم حفظ المسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم، ولا تمنعوا منه مصليًا، ولا تعرضوا لمسلم قصده وجاور فيه إلى أن ينصرف عنكم، وعليكم كنْسه وإسراجه وتكرمته.
• وعليكم في كل سنة ثلاثمائة وستون رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم.
علينا بذلك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولنا عليكم بذلك أعظم ما تدينون به ... الله الشاهد بيننا وبينكم. وكتب عمر بن شرحبيل في رمضان سنة إحدى وثلاثين هجرية.
وقد كانت تلك المعاهدة دليل على صواب رأي الصحابي "عبد الله بن سعد بن أبي سرح" - رضي الله عنه - وبعد نظره، وحنكته بمقاليد الحروب، وذلك لصعوبة اقتحام النوبة وإخضاعها بالقوة والسيطرة علة مقاليد الأمور بها خاصة مع ما كانت تمر به الدولة الإسلامية وقتذاك من أحداث، ولكثرة تمردات النوبيين، وصعوبة التجول بأراضيهم، كما أن التمعن في الشروط المنصوص عليها بالمعاهدة يبين ما لها من فائدة عظيمة لحرية تجول المسلمين بتلك الأراضي ونشر الدين الإسلامي، وهو ما حدث بالفعل، وانتشر الإسلام بين أهل النوبة انتشارًا عظيمًا، واستمرت هذه المعاهدة الطيبة حتى عهد الدولة الفاطمية في مصر.
شارك في الإعداد: محمد مصطفى حميدة، ومصطفى عبدالباقي
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|