مسكن النبي صلى الله عليه وسلم
الحاجة إلى المسكن:
يعد المسكن من الضروريات التي تأتي بعد الطعام والشراب واللباس.
قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾[1].
فالمسكن ضرورة في حالتي الاستقرار والترحل، وقد هيأ الله للإنسان في حال تنقله بيوتًا يسهل إقامتها كما يسهل حملها، وهذا من منن الله تعالى على عباده.
وأولى مهمات البيت وفوائده: ما يؤمنه من «السكن» الذي ذكرته الآية الكريمة.
فالسكن يعني الاستقرار والهدوء النفسي، ومكان الراحة للجسم، حيث يبتعد الإنسان عن أعين الناس، ويتحلل من الشكليات القائمة بينهم، ويخلو لنفسه أو يكون مع أسرته، بعيدًا عن القيود.
والبيت أيضًا هو المكان الذي يتقي فيه الإنسان الحر والبرد فيجد فيه المأوى الذي يكنه ويحفظه.
ولما لهذه المعاني من مكانة، كان المسكن واحدًا من الضروريات التي رعاها الإسلام وجعل لها حرمتها وحصانتها.
بيت النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة:
لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده بنى غرفتين بجانبه من مؤخرته من قبل المشرق وكانت القبلة يومئذٍ إلى بيت المقدس.
وبعد أن تحولت القبلة إلى الكعبة أصبحت هاتان الغرفتان حذاء جدار القبلة إلى يسار المصلي عندما يتوجه إلى القبلة.
وكانت واحدة منهما لزوجته سودة بنت زمعة، والثانية أعدت لعائشة وكان قد عقد عليها.
أما بقية الحجرات فلم تبنَ إلا عند الحاجة إليها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحدث زواجًا بنى غرفة.
قال ابن الجوزي: «قال محمد بن عمر: كانت لحارثة بن النعمان منازل قريبة من المسجد وحوله، فكلما أحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلًا تحوَّل له حارثة عن منزله، حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه»[2].
وكانت هذه البيوت كلها في شرقي المسجد على يسار المصلي إذا اتجه إلى الكعبة، وكان بعضها في قبلة المسجد يفصلها عن جداره طريق عرضه خمسة أذرع.
أما بناؤها فكان من اللبن، وسقفها من الجريد. وكانت تسعة أبيات.
وكان لأربعة منها حجر من جريد، والمقصود بالحجر: الفسحة تكون أمام الغرفة محجرة أي محاطة بشيء يمنع دخول الناس إليها. وكان السور لهذه الغرف من الجريد المقوى بالطين.
ونجد أن الروايات تذكر الأبواب والستور لهذه الغرف والحجرات. فقد روي أن باب غرفة عائشة كان بمصراع واحد من خشب العرعر أو الساج، وفي آخر نظرة نظرها النبي لأصحابه، أنه رفع الستر، كما في الصحيح. والذي يبدو لي أن البيوت كان لها أبواب من خشب، وأما الحجرات التي أمام الغرف، فكانت أبوابها الستور. وأما هذه الستور فكانت من مسوح الشعر، وقد ذرع عمر بن أبي أنيس واحدًا منها فكان ثلاثة أذرع في ذراع.
وأما مساحة هذه البيوت فكانت غير واسعة، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السجود في صلاة الليل غمز عائشة فكفت رجليها ريثما يسجد فإذا قام بسطتهما. وهذه الصورة يمكن أن توضح لنا ما كانت عليه تلك البيوت. وأما ارتفاع السقف فقد قال: الحسن البصري في بيانه كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان، فأتناول سقفها بيدي.
تلك هي بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي كان ينزل فيها الوحي، ويعيش فيها خير خلق الله صلى الله عليه وسلم.
أثاث بيوت النبي صلى الله عليه وسلم:
بعد أن وصفنا هذه البيوت، يمكننا أن نقدر نوعية الأثاث والفرش الذي كان فيها.
قالت عائشة رضي الله عنها: «كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ينام عليه من أدم، وحشوه ليف، وكانت وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي يتكئ عليها من أدم حشوها ليف»[3]. وفي قصة إسلام عدي بن حاتم قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا، فقذفها إليَّ فقال: «اجلس على هذه» قال: قلت بل أنت فاجلس عليها، فقال: «بل أنت» فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض[4].
ويصف لنا عمر بن الخطاب الغرفة التي اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم فيها نساءه فيقول: وإنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت. فقال: «ما يبكيك؟» فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله! فقال: «أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة»[5].
وكان للنبي صلى الله عليه وسلم خمرة يصلي عليها[6].
استكمال ملامح الصورة:
تلك بعض ملامح الصورة لمعيشته صلى الله عليه وسلم يستطيع القارئ أن يستكمل ما بقي منها. حجرات وبيوت في غاية البساطة من حيث البناء، قليلة المساحة، قليلة الارتفاع، فرش ما يكاد يفي بالحاجات الضرورية.
طعام يسد الرمق تارة.. وتارة يكون الجوع.. واللباس كذلك..
وهكذا بقيت الوسائل في حياته صلى الله عليه وسلم في وضعها الصحيح، ولم ترتق لتصبح غايات، وهو القائل: «إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»[7].
ولو أراد صلى الله عليه وسلم لكان له من الدنيا ما شاء، وقد رأينا من كرمه أنه يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، وأخرج البيهقي من حديث عائشة قال: دخلت عليَّ امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة مثنية، فبعثت إليَّ بفراش حشوه الصوف فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قلت: يا رسول الله، فلانة الأنصارية دخلت فرأت فراشك، فبعثت إليَّ بهذا، فقال: «ردِّيه يا عائشة، فو الله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة»[8].
بين التأسي والعزاء:
وبعد: فهل يستطيع الناس أن يكونوا على الأثر ويسلكوا هذا الطريق؟ ما من شك أن هذا هو المسلك القمة، الذي ينبغي أن يتطلع إليه كل المسلمين، والمطلوب منهم الاقتراب منه قدر المستطاع.. وما من شك أن كثيرًا من فقهاء الأمة وعلمائها. وهم الخلاصة. قد ساروا في هذا الطريق تأسيا ًبه صلى الله عليه وسلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|