الإسراء بين المسجدين
شَرَّف الله خاتم أنبيائه وإمام رُسله؛ إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ وكلاهما أعظم مساجد الدنيا حينئذٍ؛ لأن المسجد النبوي لم يُبْنَ إلا على أثر هِجرته صلوات الله وسلامه عليه من مكة المكرمة البلد الحرام إلى المدينة المنورة دار السلام.
والمساجد الثلاثة هي التي فضَّلها الله على سائر بيوته تَفضِيلًا، وهي التي لا تُشَدُّ الرِّحَال إلَّا إليها؛ كما في حديث الشيخين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولأن كلًّا من الإسراء والمعراج رحلة قُدْسِية قُبَيْل الهجرة النبوية، تمهيدًا لها، وتثبيتًا لصاحبها، صلوات الله وسلامه عليه، ولأن كلًّا منهما من أعظم آيات النبوة، اختار الله سبحانه أن يكون إسراء نبيِّه بين هذين المسجدين العظيمين، وأن يكون معراجه من ثانيهما إلى السماوات العُلا، إلى سدرة المنتهى، إلى مقامٍ لا ينبغي إلا لصفوة خَلْقه، وخاتم أنبيائه.
فأما المسجد الحرام، فهو أعظم مساجد الدنيا فضلًا، وأَجَلُّها ذِكرًا، وأعلاها شَرفًا وقَدْرًا، جعله الله مثابة الناس وأمنًا، في بلده الأمين، مهبط الوحي، ومَبعث الرسالة، ومَوْلد المصطفى صلوات الله عليه وسلامه، اختاره الله تعالى قِبْلةً لعباده، وجعل زيارته ركنًا من أركان دينه، وأَمَر أبا الأنبياء خليله صلوات الله وسلامه عليه أن يَبْنِيَه ويرفع قواعده، ويُؤذِّن في الناس بالحج إليه، ليأتوا رجالًا، وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميق، وليس على وجه الأرض موضع يجب على كل قادر أن يسعى إليه ويطوف به، ويُقَبِّل بعضه إلا هذا البيت، وحسبنا الله جلَّت آلاؤه: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 96، 97].
وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدِس، مسجد الأنبياء السابقين، وقِبْلَة الأُمَم السالفين؛ بل قِبْلَة هذه الأُمَّة المحمدية سبعةَ عشرَ شهرًا قبل تحويل القِبْلة إلى الكعبة البيت الحرام.
وفضل المسجد الأقصى في المَنْزِلة والترتيب بعد المسجد الحرام، قَبْلَ أن يُبْنَى مسجد دار الهجرة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، فأمَّا بعد بناء المسجد النبوي، فلا شكَّ أنه ثالثها في الترتيب، والصلاة فيه بخمسمائة صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والمسجد النبوي، فأما الصلاة في المسجد النبوي، فقد وَرَد أنها أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه أفضل من مائة صلاة في المسجد النبوي وأفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد.
وإذا كان الإسراء ثابتًا ثبوتًا قطعيًّا بنَصِّ القرآن الكريم الذي ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42]، فإن المعراج ثابت كذلك بالسنة الصحيحة التي رواها الثِّقَات الأثبات عَمَّن أُسري به، وعُرِج به صلوات الله وسلامه عليه.
وحسبنا من الحِكَم البالغة في الإسراء والمعراج، هذه الحكمة الإلهية التي نطق بها الكتاب العزيز، وهي مِحْنة الناس واختبارهم؛ لِيَمِيز الله الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، وليزداد المؤمنون إيمانًا، والكافرون خسرانًا؛ يقول جَلَّ من قائل: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ﴾ [الإسراء: 60]، فلقد تَجَلَّت هذه الفتنة حينما أصبح صلوات الله عليه وسلامه يُخبِر قريشًا عما رأى من بعض آيات ربِّه الكبرى، فكانوا بين مُكَذِّبٍ ومُصدِّقٍ، وواضع يده على رأسه تعجُّبًا وإِنكارًا!
ورضِي الله عن الصديق حينما سَعَوا إليه وسألوه عمَّا رأى صاحبه المصطفى فصَدَّقه، فلمَّا عجبوا من تَصدِيقه له قال: فإني أُصَدِّقه على أبعد من ذلك، أُصَدِّقه على خبر السماء.
ألا إنه الإيمان الذي خالطت بَشَاشته القلوب، ألا إنه الهدى والنور من لدن علَّام الغيوب.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|