حديث: لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركًا لحاجته
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفنَّ الليلة على تسعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان"، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك دركًا لحاجته".
قوله: (قيل له: قل: إن شاء الله)؛ يعني: قال له الملك.
قوله: (لأطوفن الليلة على تسعين امرأة)، وفي رواية: "لأطيفن".
قال الحافظ: (هما لغتان: طاف بالشيء وأطاف به: إذا دار حوله وتكرر عليه، وهو هنا كناية عن الجماع، واللام جواب القسم، وهو محذوف؛ أي: والله لأطوفن ويؤيِّده قوله في آخره: لم يحنث؛ لأن الحنث لا يكون إلا عن قسم، والقسم لا بد له من مقسم به).
قوله: (تلد كل امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله).
قال الحافظ: هذا قاله على سبيل التمني للخير، وانما جزم به؛ لأنه غلب عليه الرجاء؛ لكونه قصد به الخير وأمر الآخرة، لا لغرض الدنيا.
قال بعض السلف: نبَّه -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث على آفة التمني، والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسِي الاستثناء ليمضي فيه القدر.
قوله: (فقيل له: قل: إن شاء الله فلم يقل)، في رواية: فقال له الملك، وفي رواية: فقال له صاحبه، قال سفيان: يعني الملك، وفي رواية: قال: ونسِي أن يقول إن شاء الله.
قال الحافظ: معنى قوله: فلم يقل؛ أي بلسانه، لا أنه أبى أن يفوض إلى الله، بل كان ذلك ثابتًا في قلبه، لكنه اكتفى بذلك أولًا، ونسي أن يجربه على لسانه لما قيل له لشيء عرض له.
قوله: (فطاف بهن فلم تلد منهنَّ إلا امرأة واحدة نصف إنسان)، في رواية: "لم تحمل شيئًا إلا واحد ساقط أحد شقيه"، وفي رواية: "ولدت شق غلام".
قوله: (فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان ذلك دركًا لحاجته").
في رواية: "لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون"، في رواية: "وكان أرجى لحاجته".
قال الحافظ: قوله: دركًا بفتحتين من الإدراك وهو كقوله تعالى: ﴿ لَا تَخَافُ دَرَكًا ﴾ [طه: 77]؛ أي: لحاقًا، والمراد أنه كان يحصل له ما طلب، ولا يلزم من إخباره -صلى الله عليه وسلم- بذلك في حق سليمان في هذه القصة أن يقع ذلك لكل من استثنى في أمنيته، بل في الاستثناء يرجى الوقوع، وفي ترك الاستثناء خشية عدم الوقوع، ولهذا يجاب عن قول موسى للخضر: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ [الكهف: 69]، مع قول الخضر له آخرًا: ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82]، قال: وفي الحديث فضل فعل الخير وتعاطي أسبابه، وأن كثيرًا من المباح والملاذ يصير مستحبًّا بالنية والقصد، وفيه استحباب الاستثناء لمن قال: سأفعل كذا، وأن اتباع المشيئة اليمين يرفع حكمها، وهو متفق عليه بشرط الاتصال، وقال: وعن طاوس والحسن له أن يستثنى ما دام في المجلس، وعن أحمد نحوه، وقال: ما دام في ذلك الأمر، قال: وفيه أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ، ولا يكفي فيه النية، وهو اتفاق، إلا ما حكى عن بعض المالكية، وفيه ما خص به الأنبياء من القوة على الجماع الدال ذلك على صحة البنية، وقوة الفحولية وكمال الرجولية، مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، وقد وقع للنبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك أبلغ المعجزة؛ لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه، ومعالجة الخلق كان متقللًا من المآكل والمشارب المقتضية لضَعف البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد، وهنَّ أحد عشرة امرأة، ويقال: إن كل من كان أتقى دمه، فشهوته أشد؛ لأن الذي لا يتقي يتفرَّج بالنظر ونحوه، وفيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناءً على غلبة الظن، فإن سليمان - عليه السلام - جزم بما قال، ولم يكن ذلك عن وحي، وإلا لوقع، كذا قيل، قال: وفيه جواز السهو على الأنبياء، وأن ذلك لا يقدح في علوِّ منصبهم، وفيه جواز الإخبار عن الشيء أنه سيقع، ومستند المخبر الظن مع وجود القرينة القوية لذلك، وفيه استعمال الكناية في اللفظ الذي يستقبح ذكره؛ لقوله: لأطوفن بدل قوله لأجامعنَّ[1].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|