نتوقف هنا أمام الفَهم الدقيق والعميق للمبدأ، والذي جعل من هؤلاء الرجال أساتذةً بارعين، يعرفون كيف ينصرون الإسلام، ليس فقط على أساس من الإيمان المتجذر فيهم، وإنما أيضًا على قاعدة عريضة من الفَهم العميق لفلسفة هذا الدين، وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون الواحد منهم - الرجال الذين تربَّوْا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم على مر العصور - تمثيلاً حيًّا وواقعيًّا لدعوة الإسلام، يعلم العالم أجمعه دقيق معاني الإسلام بالقدوة قبل الكلمة!
فما أحوجنا - وقد ابتعدنا كثيرًا عن الفهم العميق لإسلامنا - أن نراجع أنفسنا؛ فإن إدراك الهوية الحقيقية لنا لا تتأتَّى إلا بمعرفتنا السليمة لديننا، والنظر في بديع محاسنه، وهو ما حاول الغرب الحاقد دائمًا صرفنا عنه، وتشويه جمال إسلامنا بقلب الحقائق عنه، وإشاعة الأكاذيب المضللة؛ لذلك فطن الإمام البخاري رضي الله عنه لهذا، فترجَم - (عَنْوَنَ) - في صحيحه الرائع باب: (العلم قبل القول والعمل)، وهذا العلم وهذه المعرفة بمعاني الخير والحق والرجولة والرحمة، ومعالي الأخلاق في الإسلام، وطرق وعثرات الدفاع عن الحق والخير فرض واجب على كل مسلم حقيقي، أراد يومًا أن يحقق شعارنا: (
كن فخورًا؛ أنت مسلم)، صلى الله على محمد وإبراهيم: ﴿
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ﴾ [الحج: 78].
وهنا يحدثنا التاريخ مرة أخرى عن رجال أدخلوا النور للدنيا؛ بيقينهم في هذا النور، ومعرفتهم الدقيقة فيه، واستعدادهم الكامل للدفاع عنه، هذه المرة مع فتح العراق وإنهاء عبادة النار؛ ليُعبد الله رب العالمين، جاء في كتاب حياة الصحابة: (وقال سيف عن شيوخه: ولمَّا تواجه الجيشان - (جش المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في خلافة الفاروق، وجيش أقوى أمة في ذلك الوقت الفرس بقيادة رستم القائد المحنك الشرس) - بعث رُستم إلى سعد رضي الله عنه أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه، فبعث إليه المغيرةَ بن شعبة، فلما قدِم إليه جعل رُستم يقول له: إنكم جيرانُنا، وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم لا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا، فقال له المغيرة: إنا ليس طلبُنا الدنيا، وإِنما هَمُّنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولًا، قال له: إنِّي قد سلطت هذه الطائفة على مَن لم يَدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مُقرِّين به، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذلَّ، ولا يعتصم به إلا عزَّ، فقال له رُستم: فما هو؟ فقال: أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، فقال: ما أحسن هذا! وأي شيء أيضًا؟ قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، قال: وحَسَنٌ أيضًا، وأي شيء أيضًا؟ قال: والناس بنو آدم، فهم إخوة لأبٍ وأمٍّ، قال: وحسن أيضًا، قال: ولما خرج المغيرة من عنده ذكرَ رستم رؤساء قومه في الإسلام، فأنِفوا ذلك، وأبَوا أن يدخلوا فيه، قبَّحهم الله وأخزاهم وقد فعل، قالوا: ثم بعث إليه سعد رضي الله عنه رسولًا آخر بطلبه وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زيَّنوا مجلسه بالنَّمارِق الْمُذهبة، والزَّرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة والزينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس، وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحُه ودرعه وبيضتُه على رأسه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتِكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإنما تركتموني هكذا، وإِلا رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النَّمارِق، فخرِق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل ذلك قبِلنا منه ورجَعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله، قالوا: وما موعودُ الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال مَن أبى، والظفر لمن بقِي، فقال رستم: لقد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبُّ إليكم: يومًا أو يومين؟ قال: لا، حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا، فقال: ما سنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخِّر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل، فقال: أسيِّدُهم أنت؟ قال: لا، ولكنَّ المسلمين كالجسد الواحد يُجير أدناهم على أعلاهم، فاجتمع رستم برؤساء قومه، فقال: هل رأيتم قط أعزَّ وأرجح من كلام هذا الرجل؟ فقالوا: معاذ الله أن تَميل إِلى شيء من هذا، وتدع دينك إلى هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه؟ فقال: ويلكم؛ لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفُّون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب
[1]؛ ا. هـ.
هذه معركة أخرى انتصر فيها الإسلام يوم كان له رجال يعرفون قدره، ويعرفون كيف يدافعون عنه وينشرونه، ولنا هنا وقفات:
الأولى: إن هذه الأشجار الشامخة التي غرسها الإسلام وسقاها، وهذب أطرافها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تُسقى بماء واحد، وتتسق في جذورها وثمارها، ألا يروعنا أنها ذات الكلمات يرددها عبادة بن الصامت من قبل، والمغيرة وربعي بن عامر عن رسالتهم ومهمتهم السامية في الحياة، لكأني بهم وقد تلاشت أنفسهم في ذات هذا الدين، يجرى فيهم مجرى الروح، يعتزون به ويعتز بهم، "إنا ليس طلبُنا الدنيا، وإِنما هَمُّنا وطلبنا الآخرة"، هكذا كانوا وهكذا انتصروا، ومن هنا كانت عزة (رِبعي وهو يهدد ويتوعد أعتى أمم وجيوش الأرض).
إن الإسلام فقط من جرَّأ أمة الغنم والصحراء والتشتت على غزو فارس والروم، وتعليمها المعنى الأرقى للحضارة والمدنية: "إني لم آتِكم وإِنما جئتكم حين دعوتموني، فإنما تركتموني هكذا، وإِلا رجعت"، يقول المسلمون لأمم تعثَّر بها ركاب الإنسانية، وفقدت الهدف والطريق، لما طغت وأفسدت، فجاءت تستنجد بالإسلام، يهدي من الضلالة في عَمًى صنعته لهم شياطينهم، وزيَّنته لهم أنفسهم، والمؤمنون الأُوَل كانوا يدركون رسالتهم جيدًا، أصولها وتفاصيل أهدافها!
"وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذلَّ، ولا يعتصم به إلا عزَّ"، وشرط النصر: "ما داموا مُقرِّين به"، "أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإِقرار بما جاء من عند الله".
وأما زمان يُغرينا الغرب فيه بمناقشة صلاحية التشريع الإسلامي لكل زمان ومكان، وقضية حجية السنة، وغيرها من علامات الانخلاع عن طاعة الله، وعدم القَبول عنه ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فهو زمان النكسة والردة والنفاق، والذلة والعار والمهانة، ﴿
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 15]؟!
الثانية: يقول الصديق رضي الله عنه: "احرِص على الموت تُوهَب لك الحياة"، ولكن أي موت وأي حياة؟ يقول أبو فراس الحمداني:
هو الموت فاختر ما علا لك ذكرُه ••• فلم يمت الإنسان ما حَِييَ الذكرُ
ويقول ابن نباتة السعدي:
من لم يمت بالسيف مات بغيره ••• تعدَّدت الأسباب والموت واحدُ
(إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتمًا، يموت الصالحون ويموت الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة، ويموت المستذلون للعبيد، يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، يموت ذَوُو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.
الكل يموت: ﴿
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، كل نفس تذوق هذه الجرعة، وتفارِق هذه الحياة، لا فارِق بين نفس ونفس في تذوُّق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع، إنما الفارِق في شيء آخر، الفارِق في قيمة أخرى، الفارِق في المصير الأخير: ﴿
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185]
[2].
أقول الفارِق على أي مبدأ تموت، وعن أي شريعةٍ تقاتل حتى الموت، "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبِل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضيَ إلى موعود الله، قالوا: وما موعودُ الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقِي".
ما أجلَّ عقيدتهم في الموت من أجلِ هداية العالم إلى خالقه، ونبذ العنصرية واستعباد البشر، وتعليم الدنيا كلها مفردات الأخلاق السامية!
إن أمريكا الفاجرة روَّجت للقتل، ونهب ثروات الأمم، وإشاعة الثقافات الهدامة كالشذوذ وغيره بشعارات الدفاع عن الحرية، فأي حرية وهم يستغلون ملايين الفقراء في (هاييتي) كحقول لتجاربهم السرية على خلق الزلازل الاصطناعية، فيموت الآلاف بلا ذنبٍ، ولم تنس الدنيا كارثة (هيروشيما ونجازاكي) التي راح ضحيتها مئات الآلاف لتجارب أمريكا النووية، وخزايا تاريخهم كثيرة، بينما يعترف أحد أكبر فلاسفتهم ومؤرخي الغرب (جوستاف لوبون) في كتابه حضارة العرب: (ما عرف العالم فاتحين أرحم ولا أعدل من العرب المسلمين)، فلماذا نُحرَج جدًّا، وتصفرُّ وجوهنا عند الحديث عن الجهاد بالمعنى الإسلامي، ونظل في خندق الدفاع السخيف؟!
وإني أسمع صوت محمد إقبال الشاعر الإسلامي الكبير يقول:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اس
مك فوق هامات النجوم منارَا؟
كنا جبالاً في الجبال وربما
سِرنا على موج البحار بحارَا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا
قبل الكتائب يفتح الأمصارَا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها
سجداتنا والأرض تقذف نارَا
كنا نقدم للسيوف صدورنا
لم نخش يومًا غاشمًا جبارَا
وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ
خضراء تنبت حولها الأزهارَا
لم نخش طاغوتا يحاربنا ولو
نصب المنايا حولنا أسوارَا
ندعو جهارًا لا إله سوى الذي
صنع الوجود وقدر الأقدارَا
ورؤوسنا يا رب فوق أكفنا
نرجو ثوابك مغنمًا وجوارَا
الثالثة: يقول العلامة أبو الحسن الندوي: (إني لأتساءل: ما هو الضيق الذي كان فيه الفرس؟ وما هي السعة التي كان فيها العرب المسلمون؟ لقد أجمع التاريخ والمؤرخون على أن الفرس والروم كانوا يعيشون في رغد من العيش، ويتقلبون في أعطاف النعيم، لقد اتسعت لهم الدنيا ولانت لهم الحياة، أما العرب فكانوا يعيشون في شظف، والمدنية لم تتعقد أمامهم بعدُ، فأين هي السعة؟! إن ربعي بن عامر كان ينظر إلى هؤلاء الملوك والأمراء كما ينظر العاقل إلى دمًى قد كُسيت ملابس فاخرة جميلة، وإلى تماثيل قد أحكمت صياغتها، وتأنَّق صانعوها تصوير قسماتها وملامحها، ولكنها تماثيل من حجر أو جبس لا حياة فيها ولا حراك بها، وكان ربعي كبقية المسلمين يتمتع بالحرية التي عرفه بها الإسلام، فتنقله من دنيا ضيقة محدودة خائفة، دنيا المادة والشهوات والأغراض، ودنيا الاستعباد، إلى دنيا القلب والروح والإيثار، والمساواة والعدل والرحمة، وتلك هي السعة على الحقيقة).
الرابعة: يوم كان الإسلام في نفوسهم أغلى عندهم من الدنيا، لم يبالوا بملبس ولا زينة كاذبة، بل نظروا إلى مهمتهم وكفى، فهابتهم الدنيا، "ويلكم؛ لا تنظروا إلى الثياب، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة، إن العرب يستخفُّون بالثياب والمأكل ويصونون الأحساب).
أحسابهم رجولتهم ومُروءتهم، ونَسبهم دينهم ورسولهم،
فكيف لا يُبهرون التاريخ؟!