شهدت السنة الثانية مِن هِجرة الرسول صلى الله عليه وسلم أحداثًا هامَّة في تاريخ الإسلام والمسلمين؛ ففي هذه السَّنة فُرض صيام شهر رمضان المبارك، ومشروعية صلاة العيد، وزكاة الفطر، وكذا أول صلاة عيد وأضحيته، والحدث الهام موضوع حديثنا هو تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة؛ إذ كانت قِبلة المسلمين منذ البعثة النبوية الشريفة هي (بيت المقدس) الذي كانت اليهود تتوجَّه إليه في عبادتها؛ عن البراء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يُعجبه أن تكون قِبلته قِبَل البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر، وصلى معه قوم فخرج رجل ممَّن كان صلى معه فمرَّ على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صلَّيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت، وكان الذي قد مات على القِبلة قبل أن تحوَّل قِبَل البيت رجال قُتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 142، 143][1].
وعن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي نحو بيت المقدس ويُكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 144]، فقال رجال من المسلمين: وددْنا لو علمنا علم مَن مات منا قبل أن نُصرف إلى القِبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]، وقال السفهاء من الناس - وهم أهل الكتاب -: ﴿ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142]، فأنزل الله: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142][2].
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، أمره الله أن يَستقبِلَ بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبَلَها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ قِبلة إبراهيم، وكان يدعو الله ويَنظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]؛ أي: نحوه، فارتاب مِن ذلك اليهود وقالوا: ما ولاهم عن قِبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [البقرة: 142][3].
وقد جاء في هذا الموضوع أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمرَ باستقبال الصخرة مِن بيت المقدس، فكان بمكَّة يُصلي بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة، وهو مُستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذَّر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس؛ قاله ابن عباس والجمهور.
والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة، واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرًا، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجَّهَ إلى الكعبة التي هي قِبلة إبراهيم عليه السلام، فأُجيب إلى ذلك، وأُمر بالتوجه إلى البيت العتيق، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمهم بذلك، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر؛ كما تقدم في الصحيحَين.
وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القِبلة نزل على رسول الله وقد صلَّى ركعتين من الظهر؛ وذلك بمسجد بني سلمة، فسُمِّي (مسجد القبلتين)، وأما أهل قباء، فلم يَبلغْهم الخبر إلا صلاة الفجر من اليوم الثاني؛ كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمر أن يَستقبل الكعبةَ فاستَقبِلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة"[4]؛ امتثالًا لأوامر الله، وجَعَل توجُّههم إلى الكعبة الشريفة أشرف بيوت الله في الأرض؛ إذ هي قِبلة وبناء إبراهيم الخليل عليه السلام.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني في أهل الكتاب -: ((إنهم لا يَحسُدوننا على شي كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلُّوا عنها، وعلى القِبلة التي هدانا الله لها وضلُّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين))[5].
عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البيت قِبلة لأهل المسجد، والمسجد قِبلة لأهل الحرم، والحرم قِبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي)).
أما الحكمة من تحويل القِبلة، فإن الله تعالى اختار لرسوله التوجه إلى بيت المقدس لما لذلك من الحكمة، فأطاع أمر ربه تعالى، ثم صرفه ثانيًا إلى قِبلة إبراهيم - وهي الكعبة - فامتثل لأمر ربه في ذلك، فهو صلوات الله وسلامه عليه يُطيع الله في جميع أحواله، لا يخرج عن أمره طرفة عين، وكذلك مخالفة اليهود في قِبلتهم ومَنهجِهم وتعامُلِهم مع أنبيائهم.