غل الصدور: أسبابه وأضراره
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد: هُناك مَشَاكِلُ كثيرةٌ تقع بين الناسِ؛ بسبب الغِلِّ الذي في الصُّدور، والحِقْدِ الدَّفِينِ، والحَسَدِ في القلوب، مِمَّا يُوجِبُ تنافُرَ القلوبِ، وعَدَمَ صفائِها، مِمَّا يُنْذِرُ بِالتَّفَرُّقِ بين المسلمين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ لاَ يَغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنُّصْحُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ» صحيح – رواه ابن ماجه. أي: لا يَكونُ ذا حِقْدٍ، وهو مُتَّصِفٌ بهذه الصِّفاتِ الثَّلاث، فأخبرَ أنَّ هذه الصِّفاتِ الثلاثَ تَنْفِي الغِلَّ عَنْ قلبِ المُسلِمِ.
والغِلُّ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، يُنْقِصُ الإيمانَ، وهو من أَسْوَأِ أعمالِ القلوب، وأَسْوَأِ الأخلاق؛ فإنَّ الضَّغائِنَ والأحقادَ إذا امتلأتْ بها القلوبُ أصبحتْ مريضةً. واللهُ تعالى أثنى على القَلْبِ السَّلِيمِ، وهو النَّاجِي يومَ القيامة، فقال سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 89]. قال ابن القيم رحمه الله: (وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ: هُوَ الَّذِي سَلِمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْغِلِّ، وَالْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالشُّحِّ، وَالْكِبْرِ، وَحُبِّ الدُّنْيَا، وَالرِّيَاسَةِ، فَسَلِمَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ تُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ، وَمِنْ كُلِّ شَهْوَةٍ تُعَارِضُ أَمْرَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَهُ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ قَاطِعٍ يَقْطَعُ عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ فِي جَنَّةٍ مُعَجَّلَةٍ فِي الدُّنْيَا، وَفِي جَنَّةٍ فِي الْبَرْزَخِ، وَفِي جَنَّةِ يَوْمِ الْمَعَادِ).
وامْتَدَحَ اللهُ تعالى أهلَ الإيمانِ الذين خَلَتْ قلوبُهم مِنَ الغِلِّ والحِقْدِ والشَّحْناءِ والحَسَدِ، وامْتَلَأَتْ صدورُهم بِحُبِّ الخيرِ للمؤمنين في كُلِّ مَكانٍ وزَمانٍ؛ فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
عباد الله.. ومِنْ أهَمِّ أَسْبابِ غِلِّ الصُّدورِ، وحِقْدِ القلوب، والضَّغَائِنِ:
1- ضَعْفُ الصِّلَةِ باللهِ تعالى: وهو سببٌ مباشر في سيطرةِ الأهواءِ والشُّبهاتِ على القلوب؛ بل هو مَدْعاةٌ لامتلاءِ القلوبِ غيظًا، وحِقْدًا، وضَغِينَةً على الآخرين.
2- الجَهْلُ بِفَضْلِ سَلامَةِ الصَّدْرِ: وخطورةُ عدمِ سلامتِه سببٌ للوقوع فيه.
3- كَثْرَةُ الانْفِعَالاتِ والغَضَبِ: وعدمُ ضَبْطِ النَّفْسِ، وعدمُ تطبيقِ التَّوجيه النبوي في هذا الأمر مَدْعاةٌ لإطلاق اللِّسانِ بين المسلمين، يَتْبَعُ ذلك تَحامُلٌ عليهم، وكراهيةٌ لهم أثناءَ الجِدالِ السَّقيم.
4- قِلَّةُ ذِكْرِ اللهِ: وجفافُ اللِّسانِ والقلبِ منه، وقِلَّةُ الدُّعاءِ؛ من أسباب فتح بابٍ للشيطان بأنْ يَلِجَ منه إلى القلوب؛ حيث يُتْرَكُ هناك مجالٌ للخواطر الرَّدِيئة.
5- عَدَمُ تَجاوُزِ الهَفَواتِ والزَّلاَّتِ: وتجاهُلُ الأجرِ والثوابِ الذي يعود على المُتَجاوِزِ؛ يجعل العلائِقَ بين المسلمين لَيِّنَةً، وغيرَ مَتِينَةٍ.
6- ضَعْفُ الصِّلَةِ بين المسلمين: على أساسٍ متينٍ من الحبِّ في الله سبحانه، وعقيدة الموالاة والمُعاداة.
7- الحَسَاسَيَّةُ المُفْرِطَةُ في تفسيرِ الألفاظِ والتَّصَرُّفاتِ: وحملها على غير محملها الصحيح.
8- تَرْكُ مُراقَبَةِ اللهِ تعالى: في المقاصِدِ، والنِّياتِ، والأقوالِ، والأفعال.
9- طَبِيعَةُ البِيئَةِ التي يَعِيشُ فيها الإنسانُ: والتي تكون الغِيبَةُ مائِدَتَها، وبَسْطُ الحديثِ عن "فُلانٍ" و"فُلانٍ"، والسُّخريةُ من الناس، والتَّنَدُّرُ بهم. وبعضُهم إذا جاءه الخَبَرُ بأنَّ "فلانًا" يتكلَّم فِيك؛ تَغَيَّرتْ نظرَتُه له، وانْقَلَبَ حُبُّه له بُغْضًا.
10- تَمَكُّنُ حُبِّ الدُّنيا فِي قُلوبِ ضِعَافِ النُّفُوسِ: حتى أصبحَ التَّنافُسُ فيها وعليها ظاهرًا، مع استشرافِ النَّفْسِ لما عند الآخَرِين من أُمورِ الدُّنيا الزَّائلة، وتركُ القناعةِ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّوكَ» صحيح – رواه ابن ماجه.
11- حُبَّ الشُّهْرَةِ: ولا سيما في هذا الزَّمان؛ فإنَّ حُبَّ الظُّهورِ والاستعراضَ الزَّائِفَ قَصَمَ الظُّهورَ، وأوْغَرَ الصُّدورَ، وكَراهِيَةَ مَنْ فاقَهُ في بَعضِ الأُمور. قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله: (مَا مِنْ أَحَدٍ أَحَبَّ الرِّئَاسَةَ إِلَّا حَسَدَ، وَبَغَى، وَتَتَبَّعَ عُيُوبَ النَّاسِ، وَكَرِهَ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ بِخَيْرٍ).
12- كثرةُ الخُلْطَةِ بين النَّاسِ: مع نِسيانِ مُحاسبةِ النَّفْسِ، وتزكِيَتِها.
13- الاسْتِعْجالُ: وعدمُ التَّرَوِّي والتَّثَبُّتِ في إصدار الأحكام على الآخرين، وربما جاء الخَبَرُ من إنسانٍ فاسِقٍ، عن طريقِ كذَّابٍ. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
14- التَّهْرِيجُ، وكَثْرَةُ المِزاحِ: وإطلاقُ اللِّسانِ في هذا الجانب، بلا ضابِطٍ، ولا رابِطٍ، والإكثارُ من السُّخريةِ والاستهزاءِ بالناس، وعلى نَقِيضِ ذلك: تَرْكُ إفشاءِ السلام، وغيابُ بَسْطِ الوجْهِ، وتقطيبُ الجَبِينِ، والغِلْظَةُ والشِّدَّةُ، والجَفاءُ في المعاملة.
15- إِساءَةُ الظَّنِّ بِالآخَرِينَ: بعضُهم يُبْرِزُ جانِبَ إساءَةِ الظَّنِّ قبلَ الإحسان، فمَنْ كان كذلك؛ فَتَحَ على نفسِه بابًا عظيمًا من الغِلِّ والحِقْدِ، يصعب أنْ يَسْلَمَ قلبُه منه، ويُنَقِّيه مِمَّا يَعتَرِيه. وفي الحديث: «فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ» رواه مسلم. فتَتَكاثَرُ - على قلبه - هذه الأوساخُ والأحقادُ حتى يَمْتَلِأَ بِالغِلِّ.
16- الغَفْلَةُ عَنْ سِيَرِ الأنبياءِ والصَّالِحِينَ: في مواقفهم مع الناس، وكيف كانت شفقتُهم على المسيئين لهم؛ قَولاً وفِعْلاً.
17- الفَراغُ القَاتِلُ: عند كثيرٍ من الناس إلاَّ مَنْ رحم ربُّك؛ مما يتيح الفرصةَ لاشتغال النَّفْسِ بالتفكير السلبي الذي يعود عليها بالضَّرَرِ، وعدمِ سلامةِ الصَّدر.
18- اتِّباعُ الهَوَى: فإنَّ كثيرًا مِمَّا ذُكِرَ من الأسباب ما هو إلاَّ بِسَبَبِ اتِّباعِ الهوى، وسيطرتِه على القلوب؛ كما قال ابن تيمية رحمه الله: (وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُجَرَّدَ نُفُورِ النَّافِرِينَ أَوْ مَحَبَّةِ الْمُوَافِقِينَ: لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلٍ، وَلَا فَسَادِهِ؛ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ بِهُدًى مِنْ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْإِنْسَانِ لِمَا يَهْوَاهُ، هُوَ أَخْذُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُحِبُّهُ، وَرَدُّ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ الَّذِي يُبْغِضُهُ بِلَا هُدًى مِنْ اللَّهِ).
19- الاسْتِجابَةُ لِوسَاوِسِ الشَّيطانِ: فإنَّ طاعةَ الشيطانِ تُؤدِّي إلى إيقاع العداوةِ والبغضاءِ، وامتلاءِ القلوب بالغِلِّ والحِقْدِ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» رواه مسلم.
20- الحَسَدُ: ولا سيما بين الإِخوةِ، والأَحبةِ، والأقرباءِ، والأصدقاءِ، والجيران، فهذا من أعظمِ أسبابِ الحقدِ، والغِلِّ، والشَّحناءِ، والبَغضاءِ، والتَّقاطُعِ، والتَّهاجُرِ.
الخطبة الثانية الحمد لله... أيها المسلمون.. ومِنْ أَهَمِّ الأضْرارِ المُتَرَتِّبَةِ على غِلِّ الصُّدورِ:
1- الفُرْقَةُ بَينَ المُسْلِمين: وتشَتُّتُ قلوبُهم، وتفَرُّقُها بسبب ما تحمله من جفاءٍ وغِلٍّ وغَيضٍ وضَغِينةٍ، وهذا هو الدَّاءُ الذي حذَّرَنا منه نبيُّنا الكريمُ صلى الله عليه وسلم بقوله: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» حسن – رواه الترمذي.
2- الغَفْلَةُ الدَّائِمَةُ، والهَوَى المُتَّبَعُ، والغِلُّ في القُلوبِ: والذي يَنْتُجُ مِنْ جَرَّاءِ البُغْضِ والكراهيةِ لكل أحدٍ إلاَّ ما كان موافِقًا للهوى. قال ابن القيم رحمه الله: (لَا تَتِمُّ سَلَامَةُ الْقَلْبِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: مِنْ شِرْكٍ يُنَاقِضُ التَّوْحِيدَ، وَبِدْعَةٍ تُخَالِفُ السُّنَّةَ، وَشَهْوَةٍ تُخَالِفُ الْأَمْرَ، وَغَفْلَةٍ تُنَاقِضُ الذِّكْرَ، وَهَوًى يُنَاقِضُ التَّجْرِيدَ وَالْإِخْلَاصَ).
3- قَطِيعَةُ الرَّحِمِ: والتَّهاجُرُ بين المسلمين.
4- انْتِفاءُ الخَيْرِيَّةِ عن الإنسان: بسبب امتلاءِ القلبِ غَيْظًا وغِلاًّ وحِقدًا؛ كما في حديث: «خَيْرُ النَّاسِ ذُو الْقَلْبِ الْمَخْمُومِ، وَاللِّسَانِ الصَّادِقِ» قِيلَ: مَا الْقَلْبُ الْمَخْمُومُ؟ قال: «هُوَ التَّقِيُّ، النَّقِيُّ، الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا حَسَدَ» صحيح – رواه البيهقي.
5- البُعْدُ عَنِ المَنْهَجِ الرَّبَّانِي الصَّحِيحِ: في الحبِّ في الله، والبُغْضِ في الله، وعدمُ الاقتداءِ بِسِيرَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
6- فَواتُ الأَجْرِ والثَّوابِ مِنَ اللهِ تعالى: بسبب تراكُمِ الغِلِّ والحِقْدِ في القلب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ؛ سُقِلَ قَلْبُهُ. وَإِنْ عَادَ؛ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تعالى: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]» حسن – رواه الترمذي.
7- قَتْلُ النَّفْسِ، والمَشاعِرِ، وإِحْراقُ الفُؤادِ: بسبب ما يحمله الإنسانُ في صدرِه على الآخرين؛ فتَمْضِي عليه أزْمِنَةٌ مِنَ الضَّيَاعِ والتِّيهِ - وهو مُشْتَغِلٌ بالأمور التَّافِهَةِ، المُسَيْطِرَةِ على مَشاعِرِه وأحاسِيسِه، وأقوالِه وأفعالِه!
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|