علاقة السيرة النبوية بغيرها من العلوم (2) - منتديات احساس ناي

 ننتظر تسجيلك هـنـا

{ فَعِاليَآت احساس ناي ) ~
                             


عدد مرات النقر : 355
عدد  مرات الظهور : 10,415,408
عدد مرات النقر : 334
عدد  مرات الظهور : 10,415,405
عدد مرات النقر : 230
عدد  مرات الظهور : 10,415,444
عدد مرات النقر : 180
عدد  مرات الظهور : 10,415,444
عدد مرات النقر : 329
عدد  مرات الظهور : 10,415,444

عدد مرات النقر : 30
عدد  مرات الظهور : 3,933,563
عدد مرات النقر : 2
عدد  مرات الظهور : 94,7970
عدد مرات النقر : 2
عدد  مرات الظهور : 94,7911
عدد مرات النقر : 3
عدد  مرات الظهور : 94,7872
عدد مرات النقر : 3
عدد  مرات الظهور : 94,7853

عدد مرات النقر : 57
عدد  مرات الظهور : 3,928,152

عدد مرات النقر : 23
عدد  مرات الظهور : 3,928,676

العودة   منتديات احساس ناي > ๑۩۞۩๑{ القسم الاسلامي }๑۩۞۩๑ > › ~•₪• نبـي الرحمه وصحابته~•₪•

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
#1  
قديم 12-25-2023, 11:17 AM
حكاية ناي ♔ متواجد حالياً
Saudi Arabia     Female
SMS ~ [ + ]
لولا سعة الأمل لضاقت بنا الحياة
اللهم أيام كما نُحب و نتمنى ..♥️
Awards Showcase
 
 عضويتي » 16
 جيت فيذا » Sep 2022
 آخر حضور » يوم أمس (06:18 PM)
آبدآعاتي » 3,720,684
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه Saudi Arabia
جنسي  »
 التقييم » حكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond reputeحكاية ناي ♔ has a reputation beyond repute
الاعجابات المتلقاة : 2270
الاعجابات المُرسلة » 800
مَزآجِي   :  08
SMS ~
لولا سعة الأمل لضاقت بنا الحياة
اللهم أيام كما نُحب و نتمنى ..♥️
 آوسِمتي »
 
افتراضي علاقة السيرة النبوية بغيرها من العلوم (2)

Facebook Twitter



سادسًا:علاقة السيرة النبوية بالتاريخ:
توطئة:
قلنا فيما سبق: إن التوحيد هو المحور الرئيسي والإطار العام للسيرة النبوية؛ لأن المقصود هو استصحاب المعيار الإسلامي الصحيح في أثناء استعراض المسيرة التاريخية للأمة الإسلامية بكل ما حوته من استقامة وانحراف، واستصحاب الصورة الإسلامية الصحيحة حية في النفوس من أجل العمل على استعادتها من جديد، وتحويلها مرة أخرى إلى واقع مشهود، بدلًا من أن تبهت الصورة في نفوس الدارسين، وتصبح ذكرى لعهد مضى ولا يمكن أن يعود.
ويجب علينا أن نبرز جملة من المعاني في تاريخ الأمة الإسلامية، لا نجدها بارزة المعالم في كثير من الدراسات المستحدثة على وجه الخصوص.
أولًا: أن التوحيد هو النعمة الربانية الكبرى التي أضافها الله على هذه الأمة، والهدف الأكبر الذي أخرجت هذه الأمة من أجله، وكلفت بنشره في الأرض، وهو في الوقت ذاته هدية هذه الأمة الكبرى للبشرية، ولا يمكن أن يكون التوحيد قضية داخلية في حياة أمة أُمِرت أن تنشر هذه العقيدة في الأرض، بل لا بد أن تنشأ عنه في واقع الأرض حركة ضخمة تنبثق من ضمير الأمة، وتأخذ شكل جهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهكذا يصبح التوحيد - في دنيا الواقع - أكبر شيء مر بالناس في التاريخ.
ثانيًا: يجب أن يتبين من دراسة التاريخ كذلك أن التوحيد هو أكبر حركة لتحرير الإنسان في التاريخ، ففي حين كانت حركات التحرير الأرضية كلها جزئية في بنيتها، جزئية في نتائجها، سواء كانت حركة سياسية، أو حركة اجتماعية، أو حركة فكرية أو حركة فنية، فقد كان الإسلام - وهو التوحيد - حركة تحريرية شاملة للإنسان كله، وللحياة كلها من كل جوانبها، منذ كان تحريرًا لضمير الإنسان من الوهم والخرافة، وتحريرًا للإنسان من العبودية وأهوائه، وتحريرًا للبشر من اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا عن طريق التشريع، وإطلاقًا لطاقات الإنسان كلها لتعمل في البناء: بناء "الإنسان الصالح" الذي يعمر الأرض بمقتضى المنهج الرباني، ويجاهد الفساد والظلم والانحراف والهبوط.
ثالثًا: كذلك لا بد أن يتبين من دراسة الواقع التاريخي الإسلامي أن التوحيد أنشأ أمة، أمة فريدة في التاريخ، في كون تجمعها لم يقم على أساس اللون أو العِرْق أو اللغة أو أية عصبيات أخرى من العصبيات التي تجمع الناس في الجاهلية، إنما على أساس العقيدة، وأن هذا - وحده - هو التجمع الصحيح الذي يليق بالإنسان، وأنه هو التجمع الأدوم.
رابعًا: ولا بد أن يتبين من الدراسة التاريخية أن حركة الفتح الإسلامي كانت كذلك حركة فريدة في التاريخ، لا تقارن بأي حركة توسعية في تاريخ الأمم الأخرى؛ لاختلافها عنها في الجوهر، وفي الهدف، وفي الآثار المترتبة عليها، ثم تولدت عن حركة التوحيد الكبرى - منبثقة عنها - حركة علمية، وحركة حضارية متميزة في التاريخ[1].
سابعًا: العلاقة الغائبة بين السيرة النبوية والتاريخ:
قد لا ينتبه كثيرًا إلى تلك العلاقة الحميمة التي تربط بين السيرة والتاريخ، ورغم تلك العلاقة المتداخلة إلا أنني لم أر فيها كتابًا مستقلًّا قد أفرد لها ليجلي تلك العلاقة ويوضحها؛ لأن البعض لا يرى أن هناك علاقة ابتداءً، وهذا قصور واضح وخلل بين في الفهم، والبعض الآخر يرى أنها علاقة هامشية لا قيمة لها، وثمة فريق ثالث قد انتبه لذلك فألف مستعينًا بثقافته واطلاعه وتدبره وكثرة تأمله.
ومن خلال التعريف السابق لكل من السيرة والتاريخ نلمس بوضوح تلك العلاقة الوشيجة التي تربط بينهما، وأنها علاقة وثيقة؛ إذ تمثل السيرة حقبة معينة من حقب التاريخ البشري العام، فعلاقتها إذًا بالتاريخ علاقة الجزء بالكل، "فكتب التاريخ ابتداءً هي هذه المؤلفات التي تهتم بسرد وقائع الأمم والدول وأخبار البشرية من لدن خلق آدم عليه السلام غالبًا إلى عصر المصنف، أما كتب السيرة النبوية فهي قاصرة على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتصل بها من أقوال وأحداث وأحوال.
وتفترق السيرة عن التاريخ في أن موضوعها لا يستقيم بغير الإسناد الذي بمثله يقبل الحديث، ومن ثم وجب التحري في إثبات أحداثها؛ لأنه لا ينبغي للمؤرخ الذي يُعنَى بالسيرة أن يقحم نزعته الذاتية أو اتجاهه الفكري والديني أو السياسي في تفسير الأحداث وتعليلها[2].
يقول الدكتور/ البوطي: "كتاب السيرة وعلماؤها لم تكن وظيفتهم بصدد أحداث السير إلا تثبيت ما هو ثابت منها، بمقياس علمي يتمثل في قواعد مصطلح الحديث المتعلقة بكل من السند والمتن، وفي قواعد الجرح والتعديل المتعلقة بالرواة وتراجمهم وأحوالهم، فإذا انتهت بهم هذه القواعد العلمية إلى أخبار ووقائع، وقفوا عندها، ودوَّنوها، دون أن يقحموا تصوراتهم الفكرية، أو انطباعاتهم النفسية، أو مألوفاتهم البيئية، إلى شيء من تلك الوقائع بأي تلاعب أو تحوير.
لقد كانوا يرون أن الحادثة التاريخية التي يتم الوصول إلى معرفتها، ضمن نفق من هذه القواعد العلمية التي تتسم بمنتهى الدقة، حقيقة مقدسة، يجب أن تجلى أمام الأبصار والبصائر كما هي، كما كانوا يرون أن من الخيانة التي لا تغتفر أن ينصب من التحليلات الشخصية والرغبات النفسية التي هي في الغالب من انعكاسات البيئة، ومن ثمار العصبية، حاكم مسلط يستبعد منها ما يشاء ويحور فيها كما يريد.
ضمن هذه الوقاية من القواعد العلمية، وعلى ذلك الأساس من النظرة الموضوعية للتاريخ وصلت إلينا سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم"[3]، وبعيدًا عن عاطفة دينية مفتعلة، أو نزعة وجدانية خيالية نقول: إنه من خلال السيرة النبوية عاد التاريخ العام مرة أخرى ليلتقي بجذوره الأولى بعد أن انقطع التاريخ الرسالي ــ وليس التاريخ الإيماني الذي (يعني وجود أناس صالحين) ــ أكثر من ستمائة عام، فعودة اتصال السماء بالأرض كانت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك الاتصال انتفى من هذه الأمة صفة الماضي، ومحي عنها تلك الكلمة التي استخدمت في غير موضعها، وهي أن للأمة (تراث) - فلا إله إلا الله - ليست تراثًا كتراث اليونان وروما وفارس؛ لأن الأمة ما زالت تعيش التاريخ الرسالي ونحن نستهجن تلك المقولة البشعة: إن للأمة ماضيًا مجيدًا - اللهم إلا باعتبار حمل المعنى على اللغة.
فالأمة ليس لها ماضٍ منفصل عن الحاضر والمستقبل؛ لأن حاضرها بل ومستقبلها متعلق بذلك الذي نطلق عليه تعسفًا بأنه ماض أو أنه تراث، "فيصبح الافتتان بما مضى من تاريخ الأمة هو البديل عن التعامل مع الحاضر واستشراف المستقبل"[4]، فمحمد صلى الله عليه وسلم (رسالة - رسول) ليس ماضيًا، ومحمد صلى الله عليه وسلم (وهو صاحب البناء الحضاري) ليس تراثًا فكريًّا أو حضاريًّا أو ثقافيًّا، ونحن لا نعيش إلا بهذه الرسالة، وبهذا الرسول، وبهذا البناء الحضاري الذي شيده نبينا صلى الله عليه وسلم، فكيف صار ماضيًا؟ وكيف صار تراثًا؟
إنني حين أقول: إن حملة نابليون الصليبية على مصر الإسلامية ماضٍ مؤلم، فهذه فترة مضت وانقضت ولن تعود أبدًا بزمانها ومكانها وأشخاصها، ولكنني حين أتكلم عن دخول الإسلام مصر لا أقول: إن عمرو بن العاص رضي الله عنه قد صار ماضيًا وانتهى؛ لأن التدفق الرسالي ما زال يسري في شريان الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا زالت الأمة تتلو قول الملك سبحانه: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﴾ [الفتح: 29]، إنها المعايشة اللحظية التي تحياها الأمة مع نبيها، وعلاقتها به صلى الله عليه وسلم.
و"قصة التاريخ الإسلامي والتجربة الإسلامية النبوية، وما يتفرع عنها من تجارب الأئمة والصحابة والتابعين، هي التجربة الأم لكل حركة إسلامية سابقة ولاحقة، والينبوع الصافي الذي يرتوي منه الظامئون الذين يعانون من ظمأ المعرفة المحرق الذي يحس به كل من استقبل الحياة بدعوة الإسلام، وواجه مشاكلها بحلوله، ما يجعل في كل مشكلة جديدة رغبة شديدة في معرفة طبيعة الحل، من خلال الينابيع الأولى، والجذور الثابتة في أعماق الأرض.
أما تجربة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاصة فهي شريعة إسلامية؛ لأن عمله رسالة ومصدر تشريعي، كما أن قوله رسالة ومصدر للشريعة، انطلاقًا من الآية الكريمة التي تدعونا إلى التأسي به والاقتداء بعمله؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
لقد جاء القرآن الكريم ليؤكد لنا عمق هذه التجربة ودورها الكبير؛ فقد كان يرعاها ويوجهها بالتأييد تارة، وبالنقد أخرى، وبالتوجيه الروحي والعملي في بعض المجالات، حتى تحول القرآن إلى وثيقة مقدسة للتجربة الإسلامية الرائدة، وقد جاء في السيرة النبوية الشريفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواجه المشاكل التي تحل بالمسلمين في شؤون الحرب والسلم، وكانت المشكلة تتفاعل في واقعهم حتى تتحول إلى قلق ينتظر كلمة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان بدوره ينتظر كلمة الله، وربما تمتد القضية إلى وقت غير قصير، والنبي صلى الله عليه وسلم ينتظر، والمسلمون ينتظرون معه، وربما يبدو من بعض المسلمين الرأي الذي يحلو للآخرين فيتحركون للتنفيذ، ويهم النبي صلى الله عليه وسلم بموافقتهم على ما يريدون، فينزل الوحي بعد ذلك ليصحح الخطأ الذي وقعوا فيه، أو يبارك الخطوة التي ساروا عليها، وهكذا.
إن قصة الرسالة لا تحتمل المجالات الشخصية والحسابات الذاتية؛ لأنها قضية الإنسانية التي لا يمكن أن تستجيب لأي انفعال عاطفي على حساب مصالحها الحيوية، مهما كانت الظروف والاعتبارات والأشخاص"[5].
وتعد الكتابة في التاريخ نشاطًا قديمًا له أعلامه في البيئة الإسلامية، وقد كان مما عني به أولئك العلماء تضمين موسوعاتهم التاريخية سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من ميلاده إلى وفاته، باعتبار ذلك جزءًا من التاريخ الذي يدونون فيه ما قبل هذه المدة وما بعدها، ولعظم أعمال بعض أولئك في هذا المجال فقد أفردت مؤلفاتهم في هذه الفترة بنشر مستقل.
ومن المصنفات التي جمعت بين التاريخ والسيرة:
1- تاريخ الأمم والملوك، للإمام ابن جرير الطبري (ت 310 هـ).
2- تاريخ الإسلام، للإمام الذهبي (ت 748 هـ).
3- البداية والنهاية، للحافظ ابن كثير (ت 774 هـ)[6].
كما أن المهتمين بتاريخ الحرمين دونوا كثيرًا من الجوانب المتصلة بالسيرة النبوية؛ لأن تاريخ هاتين المدينتين المقدستين - مكة والمدينة - يستلزم ذكر طرف من قضايا السيرة النبوية، ومن الكتب المطبوعة المهمة في هذا الموضوع (تاريخ مكة) للأزرقي (ت 250 هـ)، وغيره من الآثار المطبوعة والمخطوطة.
والحقيقة التي نريد أن نؤكد عليها ها هنا هي أن تاريخ هذه الأمة إنما انبثق أولًا من الدين؛ "ولذلك كان تاريخ الأمة مرهونًا بقُربها أو بُعدها عن الله، وقيامها أو عدم قيامها بمقتضيات رسالتها"[7]، فكل أمة تحمل في ذاتها معيار كمالها، وهو معيار مستقل تمامًا عن كل مقارنة إلى معيار الأمم الأخرى[8]؛ ولذلك فإننا نحاول في بحثنا هذا الكشف عن ماهية السير والتراجم وعلاقتها بالتاريخ؛ لأن جهدنا - في هذا الميدان - ما زال ضئيلًا، وتلك إشكالية غائبة نحاول قدر استطاعتنا التطواف حولها.
يقول د/ حسين فوزي النجار: تحتل السير والتراجم في مدونة التاريخ مكانًا مرموقًا، فإذا كان التاريخ هو البحث وراء الحقيقة وتمحيصها وجلاء غموضها في أي جانب من جوانب الحياة الإنسانية، فإن السير هي البحث عن الحقيقة في حياة إنسان فَذٍّ، والكشف عن مواهبه وأسرار عبقريته من ظروف حياته التي عاشها، والأحداث التي واجهها في محيطه، والأثر الذي خلفه في جيله؛ لذلك كانت أقرب إلى التأثير الدرامي من كل ألوان التاريخ الأخرى، وكانت أكثر إثارة للقارئ من كل كتابة تاريخية غيرها، حيث تجيش بكافة الانفعالات والعواطف التي تثور في أعماق البشر والتي تتجرد منها الواقعة التاريخية كحدث، وإن كانت من عمل الإنسان ذاته؛ ذلك أننا حين نقص من خبر الواقعة التاريخية نجردها من كل ما يدعو إلى الحدس والتخمين من أسرار النفس الإنسانية وحوافزها، فتبقى عارية إلا من الحقيقة وحدها؛ فهي التي تضفي عليها رداء التاريخ وبهجته، وهي التي تحببها إلى النفس الإنسانية حين تحدوها غريزة حب الاستطلاع إلى ما جرى.
وقد تطغى السيرة على التاريخ وتحتل الجانب الأكبر من مدونته، فمن فلاسفة التاريخ من يرى أن التاريخ ليس إلا سيرة عظماء الرجال، وهي نظرة قد بليت في بوتقة التفكير العلمي الصحيح، إلا أن السيرة لا تحتل مكانها الحقيقي في مدونة التاريخ ما لم تكن هي نفسها تعبيرًا عن الحقيقة التاريخية، تلك الحقيقة التي تجمع بين البطل والقوى الاجتماعية التي تتجاوب معه وتحدوه إلى الغاية التي تنشدها؛ فالسيرة جزء من كل، وستبقى جزءًا من الكل التاريخي للإنسانية جمعاء، لقد كانت كتابة السيرة النبوية أول عمل من أعمال التدوين التاريخي يقوم به العرب، حين مست الحاجة إلى معرفة سيرة الرسول العربي وحياته استقصاء للسنة، فحملت رجالًا - كما يقول أستاذنا المرحوم عبدالحميد العبادي - توفروا على جمع أخبارها وتدوينها، وكان ذلك بداية اشتغال العرب في الإسلام بالتاريخ، واحتلت السير والتراجم مكانًا مرموقًا في تاريخ العرب، والسيرة كمبحث من مباحث التاريخ تمثل حياة إنسانية متكاملة من المهد إلى اللحد، بل إنها تصل إلى ما قبل المهد من تاريخ الآباء والأجداد، وتمتد بعد اللحد فيما تخلفه من أثر في جيلها وفي الأجيال اللاحقة"[9].
ومن التعريف السابق لكل من السيرة والتاريخ أيضًا يتبين لنا أنه لا بد من أن "نعود بالسيرة إلى الإطار الذي نشأت فيه، ويتحدد هذا الإطار بالزمان والمكان، ففي هذا الزمان المحدد، وفي تلك البيئة (المكان) يثمر الحافز في حياة الفرد عملًا تاريخيًّا يلج به رحاب التاريخ، فالزمان والمكان يلعبان دورهما في تأهيل الفرد للعمل التاريخي"[10].
ولا بد لقراءة السيرة النبوية من سبق معرفة تامة بتواريخ من سبق من إخوانه من الأنبياء والرسل - صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين - ليقف القارئ والدارس على فقه ما مضى من سيرهم وفقه الأيام الخوالي؛ حتى يتسنى للجميع فهم مرحلة السيرة النبوية فهمًا دقيقًا لما يتفق مع أهميتها.
فالاعتقاد الصحيح ومعرفة أقدار التديُّن هما السبيل الواضح لمعرفة سير التاريخ وتفسيره وسبر أغواره؛ لأن ثمة أمورًا مشتركة بينهما، أهمها:
1 - الدين؛ فالدين هو العامل المشترك بين التاريخ والسيرة.
2 - الشخصية المحورية في كل من التاريخ والسيرة هو الرسول.
وإذا أردنا الدقة العلمية فإننا نؤكد أنه لن يفهم مسار التاريخ الإنساني بشتى مراحله إلا من خلال فهم مرحلة التدين علوًّا وهبوطًا، وارتفاعًا وانحطاطًا، مع ملاحظة أن الفارق بين السيرة والتاريخ أن السيرة لن تدخل أبدًا باب الحتمية التاريخية للعلو والهبوط (وهو ما نسميه ثبات أحداث السيرة)؛ لأن السيرة النبوية لا تبديل فيها ولا تغير، في حين أن مراحل التاريخ العام قابلة للتغير والتبديل"؛ أي: من جهة الكتابة ذاتها، وهذا ما لا سبيل إليه في كتابة السيرة؛ وذلك لأن السيرة مرتبطة بثلاثة أمور لا تتوافر في التاريخ العام:
الأول: ارتباط السيرة برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الارتباط هو المانع الشرعي لهذا التبديل والتغير؛ إذ إن الشخصية المحمدية حقيقة لا خيال فيها، وأمور حياته صلى الله عليه وسلم ثابتة لا مجال فيها للخيال ليحلق عاليًا في نفي أحداث وإدخال أحداث أخرى لم تثبت.
فسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حقيقة تاريخية لا مجال فيها للإبداع الأدبي المختلق لتجميل صورة وإكسابها طلاوة، أو اختلاق موقف، أو إظهار حدث لا وجود له، أو حذف مشهد مسيء، وليست السيرة بحاجة لخيال أديب ليسبح في أجواء سامقة بعيدًا عن الحقيقة المجردة، وإنما الفارق بين كاتب وآخر يظهر من خلال تناوله للمادة العلمية الموثقة لغة وأسلوبًا.
الثاني: الوحي؛ ففترة السيرة النبوية فترة مُسدَّدة بالوحي، وهذا ما لا يمكن أن يكون في المراحل التاريخية جمعاء، مع الأخذ في الاعتبار أنه ما ﴿ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر: 24].
والذي نخلص إليه أن الأنبياء في التاريخ لم يمروا مرورًا عابرًا في دنيا الناس، وإنما أثروا في مجرى التاريخ البشري العام، كما أثروا في مشاعر الناس وأحاسيسهم، وكان أكثرهم أثرًا هو نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
الثالث: أن السيرة النبوية تحمل تأثيرًا روحيًّا وفكريًّا ذاتيًّا؛ فهي من الناحية الإنسانية الشاملة أخص من تأثير التاريخ البشري العام؛ فالخط الفاصل بين التاريخ والسيرة: أن السيرة يذكر فيها مدى التأثير الروحي والفكري والاجتماعي من الناحية الإنسانية الشاملة؛ لأن لها تأثيرًا عميقًا في النفس الإنسانية بخلاف تأثير التاريخ العام من ناحية العظة والعبرة، فالسيرة فترة نابضة تملأ النفس بالمشاعر الجياشة، يعيش معها الفرد المسلم آلام البشر وآهاتهم وفرحهم، حتى تتصل بأعماق الضمير الإسلامي نفسه، وهذا ما كان مستقرًّا قديمًا في أخلاق المسلمين حين يذكرون السيرة النبوية؛ لأن السيرة ليست فترة تاريخية فحسب، وإنما هي أولًا مصدر للتشريع.
وإذا أردنا تلمس الحقيقة نقول: إن التاريخ إنما هو سير هذا الرهط الكريم من الأنبياء والرسل؛ "لأن الدين هو روح الحضارة، والاعتقاد الصحيح أنه لم تخلُ مرحلة من مراحل التاريخ من التدين"[11].
فالسيرة النبوية والتاريخ يتفقان في سرد القصص النبوي؛ "فموضوع التاريخ: أحوال الأشخاص الماضية، من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء"[12]، فإذا كان مفهوم التاريخ قد اتسع ليشمل سيرة البشر الحضارية، فإن السيرة أخص؛ لأنها تقتصر على شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد حفظ القرآن هذه السير لأنبياء الله الكرام ليقصها للاقتداء من ناحية، والاعتبار والعظة من ناحية أخرى، ولم تكن الغاية من هذا القصص المعرفة التاريخية بذاتها.
فالسيرة النبوية إذًا ظاهرة تاريخية اجتماعية، وموضوعها الرئيسي هو الشخصية النبوية، ومن هنا نجد العلاقة قائمة بين السيرة والتاريخ.
ولا شك أن دراسة السيرة النبوية توضح لنا جانبًا هامًّا من جوانب دراسة التاريخ الرسالي حين تلمح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم استخدامه للتاريخ القديم البائد حين نجده صلى الله عليه وسلم يتحدث عن حادثة وقعت لفرد ما أو لجماعة ما كان لهم ذكر في ذلك التاريخ المنصرم، وهي العلاقة الثابتة بين التاريخ الرسالي والدعوة [قصة أصحاب الأخدود وغيرها].
ومن فضائل السيرة أنها كانت السبب الأهم والمباشر في تدوين تاريخ البشرية العام، ويكفيها هذا الفضل والشرف والسؤدد.
والسيرة النبوية - دون غلو في القول - هي إحدى سمات التفكير التاريخي؛ لأن الظاهرة الحضارية العالمية كانت مواتًا قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وكل حضارة وتقدم بل ورفاهية إنما مرجعها إلى حامل الوحي الإلهي، وبالتالي فإن من يحمل الوحي هو الذي يملك ناصية الحضارة، ومن هنا ندرك أن الدين هو أساس الحضارة، لا كما ذهب ديورانت في قصة الحضارة؛ فقد أخطأ خطأ فاحشًا حين قال: "إن الحضارة تتألف من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون"[13] متجاهلًا - عن عمد واضح وفاضح - ذِكر الدِّين.
"والسيرة قصة تاريخية لا تشذ أبدًا عما يفيد التاريخ من حقائق تعتمد على الوثائق والمدونات والأسانيد القاطعة البعيدة عن الكذب والافتراء، إلا أنها قصة تتعلق بحياة إنسان فرد ترك من الأثر في الحياة ما جذب إليه التاريخ، وأوقفه على بابه، وهي أحفل من التاريخ العام بالعواطف الزاخرة الجياشة والأحاسيس النابضة؛ لأنها تعرض من سيرة الفرد لجوانب حياته المختلفة حتى تتجلى مقومات شخصيته، وتبرز معالم حياته لتفصح عن سر نبوغه وتفرده؛ إذ لا تحفل السير إلا بكل نابغة فريد.
لهذا كانت كتابة السير أمرًا غير يسير، لا يقدر عليه إلا من أربى على قدرة المؤرخ وإحساس الأديب معًا، فالسيرة ليست سجلًّا لحياة فرد من مولده إلى مماته، ولكنها قصة إنسان فذ أو مميز بكل ما ينبض به قلب هذا الإنسان من أحاسيس وعواطف، وما اعتور عقله من فلتات الذكاء الفذ والخيال الجامح، وأبرز ما في السيرة هو العمل الكبير الذي قام به صاحبها، والأثر الفعال الذي تركه بعمله في الحياة الإنسانية، وبقدر ما يعظم هذا العمل ويعظم تأثيره، بقدر ما يحفل به التاريخ فيقص خبره ويروي سيرة صاحبه، والسيرة كالتاريخ هي سلسلة من الأحداث أو الأعمال أو الوقائع التاريخية، والامتداد الزمني للسيرة هو العمر الذي عاشه صاحبه من مولده إلى مماته، أما امتدادها التاريخي فهو الزمن الذي تمتد خلاله وقائعها التاريخية، وقد يتسع هذا الامتداد التاريخي إلى ما بعد العمر الزمني لصاحب السيرة طالما ظلت وقائعه التاريخية مؤثرة على مدى الأجيال والأزمان؛ فالامتداد التاريخي لسيرة محمد صلى الله عليه وسلم باقٍ ما بقي الإسلام، وبناءً على ذلك فإن السيرة قصة إنسانية، وهي تاريخ حق يمثل أبرع فنون الكتابة التاريخية، وهي امتداد لحياة عظيم في زمان ومكان معينين، ويمتد الزمن بها إلى ما وراء جيلها، ثم إنها تمثل مواقف تاريخية لها حوافزها ومراميها، والسيرة كالتاريخ لا تتكرر ولا تعيد نفسها أبدًا، والسيرة أكثر نبضًا بالحياة من التاريخ، ففيها نلمس الإنسان مباشرة.
أما في التاريخ فإننا نلمس الإنسان عن طريق الأحداث التاريخية التي أحاطت به، ولكن التاريخ معناه الحق هو تاريخ الإنسان، الإنسان الذي يعيش في مجتمع، ويتفاعل معه، ويتأثر به، ويؤثر فيه في شتى مجالات نشاطه؛ من سياسة وأدب وعلم، وفن وحرب واقتصاد"[14].
ولا نكون مبالغين إن قلنا: إن السيرة هي التي ألهمت الباحثين للبحث عن مغزى علم التاريخ، وهي السبب الأول لكتابة التاريخ البشري العام، فقبل السيرة لا يوجد تاريخ دُوِّن بطريقة علمية صحيحة، ومن هذه الزاوية أيضًا كانت علاقة السيرة بالتاريخ.
ولا شك في أن "المجتمع البشري في حاجة دائمة إلى معرفة تاريخه؛ لكي يظل على اتصال دائم بماضيه؛ من أجل فهم الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل، وهذه المعرفة التاريخية لمجتمع ما ليست رهينة بقراءة الكتب التاريخية، أو الانتظام في فصول الدراسة للاستماع إلى دروس التاريخ، وإنما تتأتى هذه المعرفة التاريخية الاجتماعية من خلال انتقال الأخبار التاريخية شفويًّا من جيل إلى جيل"[15]؛ لأن التاريخ كما يرى - هيرنشو - هو مدونة العصور الخوالي، وكتابها الحافظ لأخبارها، أو هو التدوين القصصي لمجرى الأحداث العالمية كلها أو بعضها[16]، والتاريخ الذي ينقل إلى الإنسان تراث الأجيال ومعارف السابقين هو الذي يشكل الإنسان، على الرغم من أنه من ناحية أخرى من صنع الإنسان[17]، وإذا كان التاريخ يحمل لنا الواقع أو جزءًا من هذا الواقع فإن السيرة النبوية تمثل الماضي والواقع معًا؛ لأنه ما من حادثة إلا كانت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، و"من هنا يجمع المحدثون، والمؤرخون، وجمهور هذه الأمة، على أن السيرة النبوية تجسيد حي للتاريخ الإسلامي المجيد في عصر النبوة، من الناحية العملية؛ لأن حوادثها ارتبطت بشخصه الكريم صلى الله عليه وسلم في كل جوانب حياته العملية والفكرية والنفسية والاجتماعية، حتى الإنسانية"[18]، ولا يختلف اثنان أن السيرة النبوية هي التي جعلت تدوين الكتابة التاريخية تدوينًا صحيحًا، و"لا ريب أن سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تشكل الركيزة الأساسية لحركة التاريخ العظيم الذي يعتز به المسلمون على اختلاف لغاتهم وأقطارهم، وانطلاقًا من هذه السيرة دوَّن المسلمون التاريخ؛ ذلك لأن أول ما دونه الكاتبون المسلمون من وقائع التاريخ وأحداثه هو أحداث السيرة النبوية، ثم تلا ذلك تدوين الأحداث التي تسلسلت على أثرها إلى يومنا هذا، حتى التاريخ الجاهلي الذي ينبسط منتشرًا وراء سور الإسلام في الجزيرة العربية، إنما وعاه المسلمون من العرب وغيرهم، واتجهوا إلى رصده وتدوينه على هدى الإسلام الذي جاء فحدد معنى الجاهلية، وعلى ضوء المعلمة التاريخية الكبرى التي تمثلت في مولد أفضل الورى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وسيرة حياته.
إذًا فالسيرة النبوية تشكل المحور الذي تدور حوله حركة التدوين لتاريخ الإسلام في الجزيرة العربية، بل هي العامل الذي أثر في أحداث الجزيرة العربية أولًا، ثم في أحداث سائر العالم الإسلامي ثانيًا"[19]، ومما لا شك فيه أن السيرة من الناحية الزمنية والناحية المكانية، أي الجغرافيا التاريخية، تمثل حلقة تاريخية من حياة الأمة المسلمة، لكن هذه المرحلة هي من التاريخ، وهي من الحاضر، وهي من المستقبل، هي من التاريخ والجغرافيا زمانًا ومكانًا، لكنها من الحاضر عطاءً ومصدرًا للتشريع، والمستقبل رؤية واستشرافًا، فإذا كان التاريخ مصدرًا للدرس والعبرة، فإن السيرة مصدر لذلك وما فوقه، فهي مصدر للتشريع؛ لأنها فترة مسددة بالوحي ومؤيدة به، وحقبة بيان عملي، ودليل تعامل خالد، لتنزيل قيم الإسلام أو قيم السماء على الواقع البشري؛ لذلك فأية دراسة للسيرة لا تتحقق بهذه الرؤية، ولا تنطلق من هذه المنطلقات - سوف لا تبلغ المقصد، ولا تحقق الهدف[20].
والسيرة إذ تتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقوم درسها على صحيح الثقة تُبايِنُ منهج التاريخ؛ لِمَا يتوافر لها من أسباب الحيطة والتوثيق، ولِمَا تهيأ لمصادرها من النقل الصحيح.
ولا شك أن للصحابة دورًا رائدًا في حقل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم على بصيرة بما ينقلون، كما شهد لهم القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]، وما نبَّه إليه من احترامهم وتوقيرهم وتجنُّب سبِّهم في قوله: ((لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهبًا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه))[21]؛ وذلك مما يوقع مفارقة هائلة بين السيرة والتاريخ؛ لاختلاف النزعات في تناول أحداث التاريخ، وتغير ظواهره، ومن بين تلك النزعات نزعة التفسير المادي للتاريخ، تلك التي سيطرت على أفكار دعاة الشيوعية، من أصل كل ذلك كانت دراسة السيرة على هذا الوجه الجامع من خيرة أعمال الأئمة[22]، والتاريخ العام في حدود المتوفر من الوثائق والآثار والأخبار اليوم لا يشكل نسيجًا كاملًا للماضي الإنساني كله[23]، ففيه من الخلل ومن فترات وحقب طويلة لا نعلم عنها شيئًا ألبتة، مما يحتاج ذلك إلى كثرة الرجوع إلى الحوادث المشابهة لمعرفة عللها الكلية، وقد ظهر جليًّا أن الاعتماد على صحيح الروايات وحسنها يكفل توضيح الأبعاد التاريخية للسيرة النبوية دون حاجة إلى الضعيف من الروايات، مع العلم أن السيرة كحقبة تاريخية ليس فيها شيء مجهول؛ فكل لحظة من لحظات حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم مدونة ومسجلة؛ إذ لا يجوز إخفاء شيء منها؛ لأنها مصدر ثانٍ للتشريع.
وأما التاريخ فلا يختلف اثنان حول إعادة النظر فيه بشيء من التصحيح والتنقيح مما علق به ورغم تلك المحاولات الجادة من علماء لهم مكانة مرموقة، إلا أن ذلك لم يتحقق كليًّا، تلمس ذلك واضحًا في التفريق بين التاريخ وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فرغم حب المسلمين لنبيهم إلا أنهم ما استطاعوا أن يضيفوا شيئًا من عند أنفسهم إلى سيرة نبيهم؛ إذ يعد ذلك داخلًا في نطاق قوله صلى الله عليه وسلم: ((من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار))، ورغم ذلك "فالتاريخ ليس ركامًا صدفيًّا من الوقائع الجزئية، ولا هو مسيرة عبثية، وليس رحلة بلا بداية ولانهاية، ولا أهداف ولا غاية يقف عندها القطار، كلا إنما هو مسيرة عاقلة محكمة، تخضع لأدق مناهج العلوم، لو توافرت القدرة الإبصارية والبصائرية على رؤيتها من قِبل منظريها ومكتشفيها"[24].
ولقد كان كنفوشيوس يقول: إن التاريخ يمضي على مبدأ العدالة؛ لأن العدالة نقطة اهتمام اجتماعية أساسية في التاريخ.
إن التاريخ على ما يفهم عادة له نقطة ابتداء، هي الحقائق البدائية التي ينتسب وصفها وتفسيرها، إن أمكن ذلك، إلى عالم السلالات (الاثنولوجيا)، وهو يقود البشرية باطراد نحو حالة نهائية، اتخذت فيها عناصر الحضارة الجديرة حقًّا بتلك التسمية نفوذًا قويًّا مسيطرًا في كل ما يتعلق بتنظيم المجتمعات، نفوذًا يعلو على جميع العناصر الأخرى للطبيعة البشرية.
فالتاريخ ليس هو تاريخ الملوك والحكام؛ لأن الوجود فيه الآن نتاج مصطنع للطبقات الحاكمة، يستخدم لإضفاء هالة من السحر، وجو من الرهبة المصطبغة بشيء من الحنان وشيء من التوقير على النظم التي فقدت كل مبرر معقول، وليس هذا هو التاريخ؛ لأن هناك مقاصد غائية من دراسة التاريخ، أهم هذه المقاصد النظر في أمر العقيدة علوًّا وانحطاطًا؛ فالأمر الجوهري في التاريخ هو الجهد الذي يبذل في سبيل المثل العليا التي تتزيا بأشكال هي رموز متغيرة مثل الطيبة والجمال والحكمة، ورغم ذلك فلا يمكن أن يكون هناك عمل أكرم للعقل البشري من فلسفة التاريخ، أي محاولة وضع تفسير عقلاني للأحداث التاريخية؛ لأن التاريخ تجرِبة إنسانية واحدة، ويكمن مصير الإنسان في التاريخ في كونه عارفًا بما هو خير وما هو شر، وإدارة الإنسان من الأسباب التي تصنع التاريخ.
يقول بنيد تو كروتشة: إن تاريخنا هو تاريخ أنفسنا، وتاريخ النفس الإنسانية هو تاريخ العالم[25]؛ فالإنسانية هي الغاية التي ينبغي أن يعمل الناس من أجلها في التاريخ على هدى من إيمان بالله سبحانه، وعقيدة راسخة لا تخوّل تبديل الحقائق وتغيرها بل وطمسها أحيانًا؛ لأن ذلك خيانة للعلم.
لقد ذهب د / قاسم عبده قاسم إلى أن التاريخ - كعلم - قد نشأ وتطور في حجر الأسطورة[26]، ولا يخفى خطل هذا الرأي، وفحش هذا القول؛ "فإن العلم هو الكشف عن طبيعة الأشياء، ثم تصنيفها وتبويبها وإصدار الأحكام عليها"[27]، فكيف يتسنى للأسطورة إصدار أحكام على العلم وعلى التاريخ؟!
وهذا رأي بعض طوائف فلاسفة اليونان وغيرهم من الغربيين، ونحن نعلم مدى تأثر بعض كتابنا بالغزو الثقافي اليوناني والفكر الغربي؛ إذ الحقيقة أن الأساطير والملاحم الشعرية قد نسجت أثوابها من الأحداث التاريخية التي وقعت بالفعل.
فهو يرى مثلًا أن شداد عاد ولقمان تراث أسطوري[28]؛ وذلك تبعًا لما اعتقده بعض الفلاسفة ومنكري الحقائق التاريخية التي وردت صراحة في القرآن، وتلك مدرسة قائمة بالفعل، تغرف من آبار آسنة، لا تعويل عليها ها هنا.
والحقيقة "أن التاريخ كله يذوب نفسه بغاية السهولة في تراجم قلة من العمالقة والأفذاذ الجادين"[29]، ولكنه مليء بالعظماء والأفذاذ، وقد قضى ربنا سبحانه أن كل عظيم وكل فذ مهما علا شأنه لا يتخطى قدر الهداة الذين يحملون عبء هذا الدين القيم، والأمثلة أكثر من أن تحصى، ولكن: "هناك من العظماء من تتعدى عظمته حدود الزمان والمكان؛ كالأنبياء والرسل، وأصحاب الرسالات الإنسانية، وهؤلاء تتنشق الإنسانية عطرهم على طول المدى"[30]، وكأن السيرة العطرة "قطرة ماء تحس بأهداف النهر من المضي والتدفق والإرواء والإحياء"[31]، انتهى



 توقيع : حكاية ناي ♔

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ

رد مع اقتباس
قديم 12-25-2023, 11:24 AM   #2



 
 عضويتي » 67
 جيت فيذا » Dec 2022
 آخر حضور » يوم أمس (05:42 PM)
آبدآعاتي » 253,305
 حاليآ في »
دولتي الحبيبه » دولتي الحبيبه
جنسي  »
 التقييم » مجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond reputeمجنون بحبك has a reputation beyond repute
الاعجابات المتلقاة » 87
الاعجابات المُرسلة » 205
مَزآجِي   :
 آوسِمتي »

مجنون بحبك متواجد حالياً

افتراضي



جزاك الله خير
وأحسن إليك فيما قدمت
دمت برضى الله وإحسانه وفضله


 توقيع : مجنون بحبك

سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
السيرة النبوية للأطفال حكاية ناي ♔ › ~•₪• نبـي الرحمه وصحابته~•₪• 1 01-18-2024 11:57 AM
السيرة النبوية الحلقة 8 | الهجرة النبوية الشريفة وما صاحبها من أحداث | د. طارق السوي حكاية ناي ♔ › ~•₪• منتدى تطوير الذات والتنميه البشريه~•₪• 1 01-18-2024 07:59 AM
السيرة النبوية والاستشراق حكاية ناي ♔ › ~•₪• نبـي الرحمه وصحابته~•₪• 1 12-25-2023 11:24 AM
الشباب في السيرة النبوية حكاية ناي ♔ › ~•₪• نبـي الرحمه وصحابته~•₪• 1 12-23-2023 11:42 AM
السيرة النبوية: البدايات حكاية ناي ♔ › ~•₪• نبـي الرحمه وصحابته~•₪• 2 01-05-2023 11:03 AM


الساعة الآن 12:09 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
new notificatio by 9adq_ala7sas
Ads Organizer 3.0.3 by Analytics - Distance Education
User Alert System provided by Advanced User Tagging v3.1.0 (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.