من وحي السيرة: إشراقة النور
على ثَرى مكة، اشتد الظلامُ وخيَّم الليل بحُجُبه الكثيفة على كل شيء فيها، وتراكمت الظُّلمة على الأرض ظلمة من فوق ظلمة، وقطعة من الليل من فوقها قطعة، فكانت ظلمات بعضها فوق بعض، وتَسرَّبت قِطعُ الليل إلى النفوس شيئًا فشيئًا، حتى صارت نفوسُ كثير من أهل مكة لياليَ سوداء قاحلةً لا تعرف غير الخمر والجور والبطش، ثم إنه قد داخَل تلك الظُّلَمَ في النفوس شيءٌ من حُمْرة الشفق حين كانت شمس العقل تنزف آخر قطرات حياتها؛ فتراها لا تعرف غير لغة الدم، ولا تَخُطُّ بين الناس إلا سطور القتل؛ فكانت سجلات حياتهم مملوءة بغيًا وعدوانًا، وتخريبًا وسفكًا للدماء، وإفسادًا في الأرض، ناهيك عن ليالي الشرك التي ما كانت تنجلي عن سماء مكة.
وبينما الناس على تلك الحال، بين الظلام الدامس، وذكرى دم الشمس النازف آخر لحظة من النهار، بينما هم كذلك إذ بشعاع يَبرُق فجأة على قمة جبل من جبال مكة، هناك في غار حراء حيث يجلس محمد بن عبدالله يُناجي ربَّه في ساعة السَّحَر من ذلك الليل البهيم، وإذ بهذا الشعاع الذي بَرَق فجأة يجول بين ظلال الليل الكثيفة، فيَهتِك أستارَها، ويَصرَعها ظلمةً من بعد ظلمة، وإذ به يتسلَّل إلى النفوس والقلوب فيغسل عنها ذلك الذي قد علاها من ظلم الليل، وإذ بالليل البهيم يحوم بأجنحته المهيضة ثم يُحلِّق راحلاً عن أرض مكة، وإذ بذلك الشعاع يتطاير نورًا يَغمُر السهول والوديان مُؤذِنًا بفجر يوم جديد مِن أبيضِ وأنصع وأنقى أيامِ الحياة.
وأشرق النور على النفوس المظلِمة فاستنارت واستضاءت، وأمطرت سحائبه على النفوس العطشى فروتْها، ونضَح ذلك النور شيئًا من أشعته على النفوس الهَلكى فأحياها، وغسل عن تلك النفوس ما علاها من غبار السنين والأيام.
أما محمد بن عبدالله، فإنه لم يكن قد علِق بنفسه شيءٌ من تلك الظُّلَم؛ فقد كان قلبه مملوءًا ضياءً ونورًا، وكان لا يزال يسير على آثار نهار أبيه إبراهيم، فزاده النور الذي هبَط عليه من السماء نورًا على نور، وصارَ يَسير به نهارًا جديدًا ملؤه الجِد والنشاط والعمل، نهارًا ملؤه الكفاح والجهاد.
يا ألله! أبعد سنين الظلام، وأعوام الجور، وليالي البغي والعدوان، يُشرِق فجأة فجرُ العطاء والنفحات والمِنَح؟ يشرق فجأة نهارُ الخير والبِر والجود والإحسان؟
يا لرحمتك يا ألله، سبحانك وسعتَ كل شيء رحمة!
واهًا لتلك اللحظة التي أشرق فيها نور الحق الإلهي الخالد، إنها اللحظة التي اتَّصلت بها الأرض بالسماء، فإذا أرض مكة كأنها سحابة رائعة بديعة تَسبح في فضاء التوحيد الرَّحب، وإذا المؤمنون بهذا الدين الذين أشرقَت نفوسُهم بإشراق نوره كأنهم ملائكة هذه الأرض السماوية البديعة.
كان الناس قبل محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم يسيرون في صحارٍ كثيرة؛ صحاري الفكر، صحاري المشاعر، صحاري الضمائر البَوار، التي لا تعرف للحياة معنى، ولا يعرف الإحساسُ إليها سبيلاً، كانوا يسيرون في دروب الهلكة دربًا من بعد دربٍ، فإذ بهذا الرجل العربي الطاهر يأتيهم رسولاً من عند الله واهبِ النور والحياة؛ ليُخرجهم من تلك الظُّلَم المُدلَهمَّة إلى أنوار التوحيد، وليسير بهم في طريق مستقيم لا جبال شاهقة فيه فتُرهِق، ولا وديان غائرة فتُزلِق، وليَنتشِلهم من هذه الصحاري الجرداء القاحلة إلى جنات الدنيا والآخرة.
فأين أنتم يا أتباع هذا النبي من نوره الربانيِّ الرائع البديع؟!
وأين أنتم يا حملة مشاعل الهداية إلى طريقه المستقيم من هذا الطريق الذي تدْعون الناس إليه وتدلُّونهم عليه، وأنتم تسيرون - إلا من رحم الله منكم - في طرق ملتوية معوجَّة، بل إن بعضكم يسير عكس الاتجاه؟!
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|