غنى النفس
الحمد لله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 102].
نزل القرآن الكريم ليصحح المفاهيم، بدءًا بمفهوم الألوهية، وانتهاءً بمفهوم الفرح واللهو، صحح القرآن مفهوم الإله الحق، ومفهوم العلم، ومفهوم العفة، ومفهوم العبودية، ومفهوم القوة والشجاعة، ومفهوم العافية والابتلاء، ومفهوم الصلاح والفساد، ومفهوم الظلم والعدل، ومفهوم الحياء، وغيرها، ومن المفاهيم التي صححها القرآن الكريم والسنة النبوية مفهوما الغنى والفقر، فالغنى في الإسلام غنى النفس، والغنى بالله سبحانه، والفقر الحاجة إلى الله تعالى، فمن كان مؤمنًا بالله فهو الغني، ومن كان كافرًا فهو الفقير، فليس الفقير فقير المال، وليس الغني غني المال، قال سليمان عليه السلام لما عرضت عليه الهدية: ﴿ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ ﴾ [النمل: 36]، ما آتاني الله من النبوة خير من الدنيا، وقال ذو القرنين لما قال له قومه: ﴿ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ﴾ [الكهف: 94] -أي مالًا- ﴿ عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴾ [الكهف: 94]، فقال: ﴿ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾ [الكهف: 95]؛ أي: لا أحتاج إلى مالكم؛ لأن ربي معي.
وقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 8]، ولا شك أن المقصود غنى النفس؛ لأن هذه الآية في بداية الرسالة بمكة، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم وقتها من أهل المال؛ فالمقصود غنى النفس.
ويكفينا مثال قارون اللعين الذي أهلكه الله، وهو أغنى أغنياء العالم ماديًّا في وقته؛ ولكنه فقير روحيًّا، لم يشبعه ماله، وقتله غروره.
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليؤكد هذا المفهوم بقوله وفعله، فقال: ((ليس الغنى عن كثرة العرض- أي: المال- ولكن الغنى غنى النفس))؛ متفق عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يبجل ويقرب الأتقى من الصحابة له، المستغنين بالله بغض النظر عن مالهم وحالهم المادي، ويُقصي ويذم الجاحدين لله، وإن كانوا من أهل الثراء.
والواقع يؤكد هذا المعنى، فكم من غني ماديًّا فقير نفسيًّا، والعكس صحيح، تجد الغني الجاحد لله سبحانه ونعمه يعيش في ضنك وحيرة، وتشتت في أمره؛ لأنه ليس له هدف سامٍ في الحياة، وليس له دستور ينظم حياته، وليس له صلة روحية بالله تشبع حاجته العقدية التي خلق الله الإنسان عليها، فطرة الإنسان روح وجسد وعقل، لا جسد وعقل فقط، وفي الوقت نفسه تجده نهمًا يطلب المزيد، لا يشبع من المال، فهو فقير أسير لهذا المال وللدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها))؛ رواه الحاكم.
أما المؤمن بالله الغني غني النفس، فهو وإن كان قليل ذات اليد إلا أنه مستقر نفسيًّا، راضٍ بقضاء الله، قانع بما آتاه الله، يؤمن بقول الله سبحانه: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل: 18]، فنعم الله سبحانه لا يمكن إحصاؤها، ليست نعم الله المال فقط، أين العافية؟ أين الأمن؟ أين الصحة؟ أين العقل؟ لو حرمت من إحداها هل يستطيع أحد تعويضها؟ لو كان العالم كله بيده منح هذه النعم لوهبوها لمن فقدها من الناس من أعز أقربائهم، ولكنهم عاجزون. فالمؤمن يردد: لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وشتان بين هذا وذاك.
كل إنسان يصبح عنده نعمة الأمن والعافية والكفاف -وأكثرنا كذلك- ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها))؛ رواه الترمذي.
ولكن بعض الناس عندهم عقدة الفقر، دائمًا يحس بالنقص من الدنيا، ويطلب المزيد، وهذا والله الحرمان، وقد عالجه القرآن والسنة أفضل علاج، وهو ما سنتعرف عليه.
الخطبة الثانية
غنى النفس يكون بأمور:
الأول: الدعاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله تعالى: ((وأسألك الرضا بعد القضاء))؛ لأن الرضا بعد القضاء دليل على القناعة والاستغناء بالله سبحانه عن غيره، قال صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.
والثاني: الجمع بين القناعة والاستعفاف عن الخلق، وقد جمع بينهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ومن يستغنِ يُغنه الله، ومن يستعفف يُعفَّه الله))؛ لأن من قنع بالله استغنى عن غيره، ومن احتاج إلى الناس دائمًا قلَّتْ حاجته إلى الله، فالأنبياء عليهم السلام يرفعون حاجاتهم إلى الله سبحانه، قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 77-80].
ويقول فرعون للسحرة: بيدي حياتكم ومماتكم ورزقكم: ﴿ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [طه: 71]، فقالوا: حاجتنا ليست عندك: ﴿ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 72-73]، وعندما عرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك والمال والمتاع مقابل الكف عن الدعوة للتوحيد، وهو محتاج وقتها للأمن لنفسه وأصحابه، ومحتاج للمال للدعوة، ومحتاج للحماية؛ لكنه صلى الله عليه وسلم رفض الحاجة لهم، واستغنى بالله سبحانه، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليسأل أحدُكم ربَّه حاجتَه كُلَّها حتى يَسْأَلَهُ شِسْعَ نَعْلِهِ))؛ رواه الترمذي.
الثالث: أن ينظر المرء إلى من حرم من بعض النعم، ينظر المرضى في المستشفيات فيذكر العافية، ومن ألجأتهم الحاجة للتردد على الجمعيات الخيرية فيذكر المال، ومن يهجر من بلده بسبب الحروب فيذكر الأمن، فيتذكر نعمة الله عليه، ويتولد الغنى بالله في نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا على من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألَّا تزدروا نعمة الله عليكم))؛ متفق عليه.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|