النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان (4)
النَّبي صلى الله عليه وسلم في بدايته إلى المدينة، وكانت فيه مِحنة الإفك:
قال الأستاذ العمري: "وفي يوم الاثنين لليلتين خلَتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجيشه من المدينة نحو ديار بَني المصطلق، وهذا هو الرَّاجح، وهو قول موسى بن عقبة الصَّحيح، حكاه عن الزهري وعن عروة، وتابعه أبو معشر السندي والواقدي وابن سعد، ومن المتأخِّرين ابن القيم والذهبي، أمَّا ابن إسحاق فذهب إلى أنَّها في شعبان سنة ست، ويُعارض ذلك ما في صحيحي البخاري ومسلم من اشتراك سعد بن معاذ في غزوة بني المصطلق مع استشهاده في غزوة بني قُريظة عقب الخندق مباشرة، فلا يمكن أن تكون غزوة بني المصطلق إلَّا قبل الخندق"[1].
ثمَّ قال: "وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لهلال رمضان بعد أن غاب عنها شهرًا إلَّا ليلتين"، وأحال على مغازي الواقدي[2].
وفي هذه الغزوة - التي اتَّفق أهل المغازي على وقوعها في شعبان، وإن اختلفوا في السنة[3] - بدأت حادثة الإفك، واستمرَّت - إذًا - رمضان كله، ويؤخَذ من الروايات أن البراءة نزلت بعد شهر، أو أكثر، أي: في شوَّال، وحديث المِحنة مشهور، وهو عند البخاري وغيره مطولًا من حديث عائشة رضي الله عنها، ولم أجد فيه ما يشير إلى رمضان[4]!
قال العمري: "وما إن رجَع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى جاءته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار تَستعينه في عتق نفسها من ثابت بن قَيس بن الشماس الذي وقعَت في سهمه، وكانت قد كاتبَتْه، وقد ذَكَرَتْ للرسول مكانها في قومها، فقضى عنها كتابَها وتزوَّجها..."[5].
وإذا علِمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم رجع إلى المدينة لهلال رمضان خلصنا إلى أنَّ مجيء جويرية - حسب ظاهر هذا الكلام - كان في ذلك الحين، وكذلك زواجه منها، ولكن يعارض هذا أنَّ البيت النبوي كان مشغولًا بمِحنة الإفك، فلا بدَّ - والله أعلم - أن يكون الزواج قبل الرجوع، أو بعده بوقتٍ ما.
ويُرَجِّح الأولَ - أي كان قبل الرجوع - ما جاء عن جويرية: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على المريسيع، فأسمعُ أبي يقول: أتانا ما لا قِبَلَ لنا به، قالت: وكنت أرى من الناس والخيل والعدد ما لا أصِف من الكثرة، فلمَّا أن أسلمتُ وتزوَّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعنا جعلتُ أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنتُ أرى، فعرفتُ أنه رعب من الله..."[6]، وكذلك يرجِّح هذا سياقُ الخبر عن السيدة عائشة[7].
♦♦♦
ولعلَّه في رمضان هذا حَوَّل النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافَه إلى العشر الأواخر:
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا، حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين - وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه - قال: ((مَنْ كان اعتكف معي فليعتكف العشرَ الأواخر، فقد أُرِيتُ هذه الليلة ثم أُنسِيتُها، وقد رأيتني أَسجد في ماء وطين من صَبيحتها، فالتمِسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كلِّ وِتر))، فمطرت السَّماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على جَبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين"[8].
وجاء عن أم سلمة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتَكف في أول سنة العشر الأُوَل، ثمَّ اعتكف العشر الوسطى، ثم اعتكف العشر الأواخر، وقال: ((إني رأيت ليلةَ القدر فيها، فأنسيتُها))، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعتكف فيهنَّ حتى توفي صلى الله عليه وسلم"[9].
ومن مجموع هذين الحديثين قد نخرج بما يلي:
• اعتكف النَّبي العشر الأول مرةً واحدة.
• اعتكف العشرَ الأوسط أكثر من مرَّة بحيث عُرف ذلك عنه، يدلُّ على هذا قول أبي سعيد الخدري: كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، وأقل ما تعرف به العادة ثلاث مرات، فيكون اعتكف في رمضان الثاني والثالث والرابع في العشر الأوسط، وفي الرابع هذا لعله استمرَّ معتكفًا العشر الأواخر.
• كان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان هذا محزونًا لِمحنة الإفك، وقد يدلُّ هذا على انصرافه إلى ربِّه واعتزاله الناس، وتسلية الله تعالى له بليلة القدر[10]، والله تعالى أعلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|