تواضع النبي صلى الله عليه وسلم
جاء عَدي بن حاتم الطائي إلى المدينة المنورة وهو لَمَّا يُسلم بعدُ، وحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه بعد انصرافهم من إحدى الغزوات يلبسون الدروع السوابغ، فراعته هيبة الصحابة واحترامهم لنبيِّهم الكريم عليه الصلاة والسلام، وبينما هو كذلك جاءت امرأة فقيرة من إماء المدينة إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وقالت له: يا رسول الله، أريد أن أُسِرَّ لك شيئًا، فقال لها: انظري في أي سكك المدينة أخلو لكِ، ثم نهض معها ووقف طويلًا يستمع إليها ثم عاد، فلما رأى عديٌّ هذا، تملكتْه روعةُ هذه النزعة الإنسانية، فأسلَم.
إن عديًّا لم يكن رجلًا عاديًّا من الناس، فهو ابن حاتم الطائي ذي الصيت المعروف، والشهرة المدوية، وقد كان زعيمًا لقومه، وهرب حين حاقت بهم الهزيمة إلى الشام، ثم عاد بعد ذلك، وهو إلى جانب هذا رجل ذو دين فلم يكن وثنيًّا كما كان أكثر العرب، بل كان رجلًا نصرانيًّا عنده علم ومعرفة، إضافة إلى مركز سياسي وقبَلي مرموق.
ومع هذا يتوقف عديٌّ متعجبًا مبهورًا مأخوذًا باحترام الصحابة الشديد للرسول صلى الله عليه وسلم، لا ريب أن منظرهم كان يبعث على الهيبة الشديدة، فهم لعودتهم القريبة من الجهاد يلبسون دروعهم السابغات، وهم حول نبيهم الكريم صلى الله عليه وسلم، كأُسْد الشرى يفدونه بالأرواح والمُهج، لكن هذا الموقف المهيب، كان ينطوي على نزعة إنسانية عميقة في غاية الرحمة والبساطة والتواضع.
من أجل ذلك لم تتردَّد الأَمَة المسكينة الفقيرة في قدومها للرسول صلى الله عليه وسلم لتُسِرَّ إليه شيئًا خاصًّا بها، لقد اقتحمت أسوار الهيبة الصادقة العميقة بنوازع الرحمة التي تعرِفها أصلًا في هذا الدين، وخُلقًا كريمًا في نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، لذلك لم ترجع إذ شاهدت الرجال ودروعهم السوابغ، ولم ترجع للموقف المهيب الذي شهِده عديٌّ، بل اقتحمت ذلك كله، فقد ارتقى الإسلام بإنسانيتها، وعلَّمها أن لها حقًّا، وعلَّمها أن بوسعها الوصول إلى أعظم رجل في الإسلام، بل في الدنيا كلها، وهو رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.
ينبغي ألا تفوتنا الدلالة الضخمة في حادثة هذه المرأة المسكينة، على عمق شعورها بإنسانيتها وكرامتها، وحقوقها المحفوظة، ومسؤولية الحاكم إزاء ذلك كله.
إن ذلك بدون ريبٍ بعض عطاء الموجة التحررية الكبرى التي بثها الإسلام في نفوس الناس، ورفعهم إلى آفاقها المنيفة الكريمة الشماء، فاستشعروا بها عِظمَ مكانتهم والمنزلة التي يستحقون، أما ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذه المخلوقة المسكينة، فهو الأمر العادي المتوقع الذي يليق به، والذي ينسجم مع إعداد الله تعالى له؛ ليكون القدوة الخالدة إلى يوم الدين.
إنه النزوع إلى تكريم الإنسان، والارتفاع به إلى أعلى الذُّرى، وشد بصره دائمًا نحو مكانته حتى لا يفرِّط فيها، فإنما تضيع الحقوق من التفريط بها، ولولا العبيد ما كان السادة، ولولا الأذلاء الجبناء ما كان الطغاة والمتجبرون، والطغاة لا يولدون طغاة، إنما يصنعهم ضعف النعاج.
ولَمَّا كان الإسلام يريد العلو لأبنائه والكرامة لهم، أوقد في نفوسهم مشاعر الأحرار والرجال؛ لأن تكاليفه لا يمكن أن تنهض بها الظهور التي اعتادت على الانحناء بين أيدي الفاجرين والظالمين، وإنما تنهض بها الوجوه الكريمة التي ما اعتادت أن تعرف السجود والركوع إلَّا بين يدي خالقها، أما ما سوى ذلك، فبشرٌ مخلوق من تراب، وصائر إلى تراب.
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة بعد جهاد قرابة ربع قرن، ووقف موقف المنتصر ممن حارَبه وكذَب عليه وظلَمه، تذكَّر دعوته ومبادئها التي يقف بها اليوم غالبًا ظافرًا كما وقف بها من قبل مستخفيًا مطاردًا، وأعلن هذه المبادئ التي طالَما نادى بها من قبل انتصاره النهائي، فوقف على باب الكعبة وقريش ذات الكبرياء والعُنْجُهِيَّة، والفوارق الاجتماعية الظالمة تسمعه إذ يقول: "يا معشر قريش، إن الله أذهب عنكم نَخوةَ الجاهلية وتعظُّمَها بالآباء، الناس من آدم وآدم خُلِق من تراب"، ثم تلا قول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، وبهذا الإعلان الضخم الكبير استقرت كرامة الإنسان، وعُرفت منزلته، وأُعلِنت حقوقه، وتأصَّلت فكرةُ تكريمه وتقديمه، ورعايته واحترامه، أصلًا ضخمًا راشدًا من أصول هذا الدين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|