عظمة الرحمن في خلق الإنسان
الحمد لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدْلِهِ ضلَّ الضالُّون، ولحكمه خضع الخلق كلهم أجمعون، ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، ﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ [الروم: 26]، ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [هود: 123]، سبحانه وبحمده، ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، والصلاة والسلام على من بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صـلى الله وسلم وبــارك وأنعـم عليـه، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، والتابعين وتابعيهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وتأملوا في هذه الآيات؛ قال الله تعالى: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق: 5]، وقال جل وعلا: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، وقال سبحانه وبحمده: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5]، وقال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ [القيامة: 36 - 40].
وقال جل ذكره: ﴿ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ﴾ [المرسلات: 20 - 23]، وقال: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [يس: 77]، وقال جل وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 12 - 14].
إن المتأمل في تلك الآيات يلحظ ندب الله تعالى إلى التفكر في ذلك المخلوق وخلقه، نعم، أنت - أيها الإنسان - من يدعوك الله لأنْ تتفكر في نفسك، وكثيرًا في القرآن ما يُدعَى العبد إلى النظر والتفكر في مبدأ خَلْقِهِ ووسطه وآخره؛ إذ نفسه وخلقه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسُه، وفيها من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه فضلًا عن كله، وهو غافل عنها مُعْرِض عن التفكر فيها، ولو فكَّر في نفسه، لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره؛ قال الله تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ﴾ [عبس: 17 - 22]، فلم يكرر سبحانه على أسماعنا وعقولنا ذكر هذا؛ لنسمع لفظ النطفة والعلقة والمضغة والتراب، ولا لنتكلم بها فقط، ولا لمجرد تعريفنا بذلك، بل لأمر وراء ذلك كله، هو المقصود بالخطاب، وإليه جرى ذلك الحديث.
جسد الإنسان؛ أرقام وحقائق:
أيها المسلمون: تعالَوا لنرحل الآن رحلةً عجيبةً، رحلةً إلى داخل أجسامنا، لنتفكر في عجيب خلق ربنا؛ ولنمتثل قوله سبحانه: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].
فلننطلق الآن بأول الرحلة لنبصر أن جسم الإنسان العادي ينتج في كل ثانية أكثر من 25 مليون خلية جديدة.
ويحتوي دماغه على أكثر من 100 مليار خلية عصبية، وتحتوي كبده على أكثر من 400 مليار خلية كبدية.
وتحتوي رئته على أكثر من 700 مليون حويصلة تنفسية، وتحتوي معدته على أكثر من 35 مليون غدة هاضمة للطعام، وتحتوي دماؤه على أكثر من 25 مليون كرية حمراء، تجري في أوعية دموية يبلغ طولها أكثر من 100،000 كم، ويوجد في جسمه أكثر من 3 ملايين مستشعر للألم.
ويمكن لأنفه أن يميز أكثر من 50.000 رائحة مختلفة؛ حيث يوجد في الأنف 100 مليون خلية عصبية شمية، وكل خلية لها سبعة أهداب، عليها مادة دهنية مذيبة، تتفاعل مع الروائح تفاعلًا كيماويًّا، فينشأ من هذا التفاعل شكل هندسي يرسل إلى مركز الشم في المخ على شكل إشارة، ويستعرض مركز الشم في المخ هذه الرائحة فيدركها أولًا، ثم يتعرف عليها ثانيًا، وهناك نظريات أخرى كثيرة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
أعاجيب جسم الانسان:
الأعجوبة الأولى: أن المولى جل وعلا خصَّ جسم الإنسان بجهاز مناعة يتكون من خطوط دفاع ثلاث، وهي أجهزة بالغة الدقة.
وأول هذه الخطوط: الجلد، وهو درع سابغة على البدن تردُّ عنه الجراثيم والأذى.
ويعد الجلد في الجسم بمثابة وزارة الخارجية تنقل كل التغيرات الخارجية المحيطة بالجسم؛ من انخفاض للحرارة، أو ارتفاعها، أو جفاف، أو رطوبة، أو لسع مؤذٍ، أو لذع نار.
وأما خط الدفاع الثاني؛ فهي أجزاء تقي من الأجسام الغريبة أو الضارة؛ فالعين مثلًا خُصت بثلاث واقيات: الأهداب والأجفان والدمع.
وأما خط الدفاع الثالث؛ فهو الدم بجنوده من الكريات البيضاء، وعدد هذه الكريات جيش عرمرم جرَّار قِوامه خمسة وعشرون مليون كرية في أيام السلم، ويتضاعف هذا العدد في حال الاستنفار ليصل إلى مئات الملايين في حال القتال.
إنها خلايا الدم البيضاء التي أدهشت العلماء في توزيعها الأدوار القتالية على أفرادها؛ لمحاربة أي جسم غريب تجاوز خطوط الدفاع الأولى والثانية، ثم تلتهمه، ثم تأتي خلايا لاقمة لتنظيف ساحة المعركة من بقايا جثث الأعداء؛ ليعود الدم كما كان نقيًّا سليمًا: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4].
أعجوبة ثانية: لكل إنسان بصمة ورائحة خاصة به:
أثبت الطب الحديث أن لكل إنسان رائحة خاصة به تميزه عن غيره من سائر البشر، من أجل ذلك تستخدم الشرطة الكلاب البوليسية في تعقُّب المجرمين؛ ولقد أثبت القرآن الكريم هذه الحقيقة العلمية منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، وقد جعل سبحانه معرفة هذه الحقيقة كرامةً اختص بها نبيه يعقوب عليه السلام؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف: 94]؛ [كشاف الإعجاز العلمي لنبيل هارون، ص: 31].
ولكل إنسان بصمات أصابع خاصة به:
أثبت العلم الحديث عدم تشابه بصمات إنسان مع بصمات إنسان آخر؛ ولذا فقد استخدمت الشرطة هذه البصمات في الكشف عن المجرمين؛ وصدق الله تعالى حيث يقول: ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4]؛ [التبيان للصابوني، ص: 133: 132].
وأحدث بصمة توصَّل إليها العلماء هي بصمة العين؛ فقد ثبت أنه لا توجد بصمة للعين تضاهي الأخرى، ومن الإعجاز الرباني أيضًا أن بصمة العين اليمنى تختلف عن بصمة العين اليسرى للشخص الواحد.
وقد أمكن تكبير بصمة العين بأجهزة خاصة 300 مرة، ووُجد أن لكل عين بصمةً أمامية وبصمة خلفية، وبهما تحدد هُوِيَّةَ الشخص، ويستحيل التزوير في شخصيته، وبصمة العين موجودة في شبكية العين، وقد وجد العلماء أن مسار الأوعية الدموية يختلف من شخص لآخر في شكلها ومكانها وتفرعاتها، حتى الاختلاف بين العين اليمنى واليسرى للشخص الواحد، وكذلك فإن القزحية - وهي الجزء الملون في العين، وتتحكم في كمية الضوء النافذة من خلال إنسان العين "البؤبؤ" - تتركب من نسيجين عضليين، وتجمعات من ألياف مرنة، وتتكون هذه الألياف بشكلها النهائي في الجنين وهو في بطن أمه، ولا تتغير أبدًا بعد الميلاد، فبهذا أصبحت بصمة العين دليلًا قاطعًا لتحديد صاحبها.
وقد تعجَبُ - أيها الحبيب - إن قلت لك: إن في العين الواحدة حوالي 140 مليون مستقبل حساس للضوء، وهي تسمى بالمخاريط والعصبيات، وطبقة المخاريط والعصبيات هذه واحدة من الطبقات العشر التي تشكل شبكة العين، والتي يبلغ سمكها بطبقاتها العشر 0.4 ملليمتر.
• ويزداد عجبك إذا قلت لك: إن العين يخرج منها نصف مليون ليف من العصبيات تنقل الصورة بشكل ملون (التليفزيون الملون).
• وإذا قلت لك: إن العين ككاميرا تلتقط حوالي 20 صورة في الثانية الواحدة، فتتكون الصورة على الفيلم الذي هو الشبكية، وتكون مقلوبةً مصغرة، ثم تذهب إلى معمل التحميض والطبع في معمل المخ (المنطقة 18، 19)، فيعدلها ويجعلها في حجمها الطبيعي في أقل من 1/20 من الثانية الواحدة.
وللعين البشرية قدرة باهرة على التمييز بين الأشكال والألوان والصور؛ فهي تستطيع التمييز بين 10 ملايين لون مختلف، علمًا بأن أدق آلات التصوير التي اخترعها الإنسان حتى الآن لا يمكنها الوصول إلى هذه القدرة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
عظمة الله في خلق الجفون:
ومن عظمة الله تعالى أن العين تقع في تجويف عظمي لحمايتها وتثبيتها من الخلف، أما من الأمام - حيث لا توجد حماية عظمية، وهذا طبيعي - فقد زوَّد سبحانه وتعالى العين بالجفون (علوية وسفلية)، وهي مثل الستائر المتحركة، تظل مفتوحة لتسمح للعين بالرؤية، ولكنها تغلق عند وجود أي خطر حمايةً للعين، وتلاحظ ذلك عند اقتراب شيء غريب من العين؛ حيث تقفل الجفون فورًا، وقد زوَّد رب العزة الجفون بعضلات تسمح لها بأن تظل مفتوحة طيلة الوقت دون إرهاق، وفي الوقت نفسه فإنها تغلق على فترات منتظمة؛ وذلك لتنظيف القرنية، ولإعادة توزيع الدموع على سطحها لتمنع جفاف العين.
فسبحانك ربنا ما أعظمك! وعلى من عصاك ما أحلمك! سبحانك ما قدرناك حق قدرك! عبادتنا لك شرف، والذل لك عزة، والافتقار إليك غِنًى، والتمسكن لك قوة.
أعجوبة ثالثة؛ هذه المعدة لها فوهة مُحْكَمة الإغلاق لئلا تخرج السوائل الحمضية فتزعجك، وحينما يتقيأ الإنسان يشعر بحرقة لا تحتمل، إنها حمض كلور الماء، فلئلا يخرج هذا الحمض إلى المريء فيزعج الإنسان، كانت الفوهة محكمة الإغلاق؛ لأجل أن تأكل، وتشرب، وتتنفس، وتنام، وتزدرد اللعاب في الليل، وتهضم الطعام بالمعدة دون تنغيص أو تعب أو ألم، من رتب هذا؟ من أتقن هذا؟ ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4].
أعجوبة رابعة: في فمك شرطي مرور يعمل منذ خرجت من بطن أمك، لا يكَل ولا يمَل، يعمل ليلًا نهارًا في اليقظة والمنام.
إنه اللسان الذي يقوم بأخطر عمل في حياتك، فلو أن نصف كأس من الماء دخل خطأً في القصبة الهوائية إلى الرئتين، لَمات الإنسان اختناقًا بعد خمس دقائق.
فهل تفكرت كيف تبلع اللقمة، وكيف تبتلع لعابك بصورة غير شعورية؟!
فحينما تبلع اللقمة تأتي اللهاة، وتغلق طريق الأنف، ويأتي اللسان، ويغلق الحنجرة، وأيضًا يجتمع اللعاب في فمك، فيبتلعه لسانك تلقائيًّا، وينتقل اللعاب إلى المريء.
والأعجب: أن هذا يجري وأنت نائم، ولكن ربك المتعالي يحفظك في نومك: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11].
إخوة الإسلام، هذا قليل من كثير، وهو يدعو للعلم بالله سبحانه وتعالى وبوحدانيته، وصفات كماله، ونعوت جلاله، وكمال حكمته ورحمته وإحسانه، وبره ولطفه وعدله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾ [الانفطار: 6، 7].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فكل واحد منا إذا تأمل في تركيب بدنه، والتناسق بين أعضاء جسده، وكيف أن الله تعالى اختار أن يكون كل عضو في موقعه الذي هو فيه، وشاء جل وعلا أن يضعه في محله الذي يناسبه، ويؤدي وظيفته المنوطة به، فإن المؤمن حين يتدبر ذلك ويستشعر قوله تعالى: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].
يزداد إيمانه بخالقه الذي أوجده على هذه الهيئة البديعة، وخلقه بهذه الصورة الفريدة، وتظهر له عظمة الخالق وقدرته على كل ما يشاء وما يريد، فتضيء قلب المؤمن تلك الآيات الباهرات، وتسطع له أنوار اليقين، وتنمحي من قلبه غمرات الشك والريب، وتنقشع عنه ظلمات الجهل وغياهب الضلالة.
إن أدلة التوحيد على ربه ناطقات، شاهدة بعظمة مدبره، ومرشدة إلى بديع صنعه، فهذا الإنسان مكون من قطرة ماء، تقلبت وانتقلت من طور إلى آخر حتى أصبحت عظامًا، ثم كساها سبحانه وتعالى باللحم، وشدها بالأعصاب والأوتار، ونسجها بالعروق، وخلق الأعضاء وركبها تركيبًا بديعًا متناسقًا، لا تحيط العقول البشرية بأسراره، ولا تدرك الأفهام الإنسانية حقيقته وكُنْهَهُ؛ فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين ضعيف مستقذر، لو مرت بها ساعة من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته، مطيعة لمشيئته، مذللة الانقياد على ضيق طرقها واختلاف مجاريها، إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها.
عباد الله، وإذا كنا نعجب من بديع خلق الله تعالى للإنسان من سلالة من ماء مهين، فالعجب الذي لا ينقضي من هذه الروح التي تحل في الجسد منذ أن يكون عمر الجنين أربعة أشهر، يرسل الله تعالى للإنسان المَلَكَ وهو في بطن أمه، ويُؤمر بنفخ روحه في جسده فيصبح إنسانًا، هذه الروح لا نعلم كنهها ولا حقيقتها، وليست من عالم المادة الذي نعرف شيئًا يسيرًا من معالمه، وإنما هي من عالم آخر لا نعرفه؛ ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح توقف حتى نزل عليه الوحي؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
والعجيب أن الإنسان لا يرى روحه التي بين جنبيه، ولا يعلم أين هي، ولا كيفية سريانها في الجسم، ويستدل على وجودها بآثارها، الروح جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في النبات.
وإن تعجب فاعْجَب من المُلحد الذي لا يؤمن بوجود الله؛ لأنه لم يرَ الله، بينما يؤمن بوجود روحه التي بين جنبيه وهو لم يَرَها، يريد أن يرى الله الذي لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو عاجز عن رؤية روحه التي بين جنبيه، ويؤمن بوجود روحه بآثارها، ولا يؤمن بالله الذي له في كل شيء آية، تدل على وحدانيته جل وعلا.
عباد الله، ليحرص المسلم على التفكر؛ فإنه مما يزيد الإيمان ومما يقوِّي اليقين، التفكر في عظمة خلقه، التفكر في عظمة خلق الله عز وجل للسماوات والأرض وما فيهما، وما بث فيهما من دابة، هذا التفكر والتأمل يزيد من الخشية، ويزيد من الإيمان، ويزيد من اليقين، ويزيد من استحضار العبد لعظيم قدرة الله عز وجل، وبديع صنعته، وعجائب آياته.
ألَا وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير والسراج المنير؛ فقد أمركم الله بذلك فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الكفر والكافرين.
اللهم انصر من نصر دين الإسلام في كل مكان، اللهم اخذل من خذل دين الإسلام، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارضَ عن صحابة نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك، يا رب العالمين، وأقم الصلاة.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|