الوصول إلى بدر وما تبعه من أحداث
وقع اختيار النبي صلى الله عليه وسلم على بدر للنزول بها، كما كان هو أيضاً اختيار المشركين، فسيأتي أن أبا جهل قال: والله لا نرجع حتى نرد بدراً. ولعل من أسباب ذلك:
١- أنه سبق لهما اللقاء بها، وذلك في بدر الأولى.
٢- أنها مقر اجتماع الناس؛ فقد كان بها سوق من أسواق الجاهلية.
٣- وقوعها على مفترق طرق، بحيث يتوارد لها العرب من كل ناحية.
٤- توفر الماء بها لكثرة القُلُب فيها.
٥- قبل هذا وذاك اختيار الله عز وجل أن يكون لقائهما ببدر، حيث جمع بينهما على غير ميعاد.
وقد تكون هذه الأسباب خاصة بالمكان، أما الزمن فإن الله قد جمع بينهما بغير ميعاد.
روى البخاري في صحيحه من حديث عبدالله بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني تخلفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب أحد تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد[1].
قصة مشورة الحباب بن المنذر، وبيان ضعفها سنداً ومتناً:
قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة" قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس، حتى نأتي أدنى ماء من القوم فتنزله، ثم نعوِّر[2] ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي". فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقلب فعورت، وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه، فمُلئ ماء، ثم قذفوا فيه الآنية[3].
وكما أن هذه القصة ضعيفة السند، فكذلك هي ضعيفة المتن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو القائد المحنك، الذي يعرف طبيعة الأرض التي يقاتل عليها العدو، وقوته، ومواضع الضعف فيه، فكيف يغيب عنه هذا الأمر، وهو من الوضوح بمكان، ثم يأتي أحد أصحابه ليبينه له؟! وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم بذكائه استطاع أن يعرف عدد جيش المشركين بسؤاله الغلام بدون أن يخبره بالعدد كما سيأتي في قصة الغلام الذي أسره المسلمون.
بناء العريش:
بعد أن استقر الحال بالمسلمين، واستعدوا لقتال عدوهم، اقترح سعد بن معاذ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون مقراً لقيادته، استعداداً للطوارئ، وتقديراً للهزيمة قبل النصر، قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن سعد بن معاذ رضي الله عنه قال: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشاً[4]، تكون فيه، ونعد عندك ركائبك[5] ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله، وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك، ويجاهدون معك، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً فكان فيه[6].
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عريش يدير منه المعركة يوم بدر، وقد شارك أيضاً صلوات الله وسلامه عليه في الحرب والمعركة، ونزل إلى ساحة القتال، كما سيأتي.
فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر، وذكر دعاءه[7].
قال ابن إسحاق - رحمه الله -:
خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فقال: "أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه"[8].
وروى البزار في مسنده من حديث علي رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: يا أيها الناس، من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين. فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر! إنا جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فقلنا: من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه، فهذا أشجع الناس[9].اهـ
وقال ابن إسحاق وغيره:
"وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه واقفاً على باب العريش، متقلداً بالسيف، ومعه رجال من الأنصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفاً عليه من أن يدهمه العدو من المشركين، والجنائب النجائب[10] مهيأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن احتاج إليها ركبها، ورجع إلى المدينة، كما أشار به سعد بن معاذ"[11].
التصرف في الماء:
قال ابن إسحاق: فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعوهم"، فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، ثم أسلم بعد ذلك، فحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني من يوم بدر[12].
نزول المطر:
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث علي رضي الله عنه وهو يحدث عن ليلة بدر: أصابنا من الليل طش من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف[13]، نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه عز وجل [14]...الحديث.
قال الشيخ محمد رشيد رضا:
"ولولا هذا المطر لما أمكن المسلمين القتال؛ لأنهم كانوا رجالة ليس فيهم إلا فارس واحد هو المقداد، كما تقدم. وكانت الأرض دهاسا تسيخ فيها الأقدام، أو لا تثبت عليها"[15].
قال ابن القيم - رحمه الله -:
"وأنزل الله - عز وجل في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً، منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاً طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل"[16].
قال ابن سحاق:
"ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي، وهو يليل بين بدر وبين العقنقل الكثيب الذي خلفه قريش، والقلب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ماء لبد لهم الأرض، ولم يمنعهم عن المسير، وأصاب قريش منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به"[17].
قال تعالى: ﴿ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42].
وقال تعالى: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ﴾ [الأنفال: 11].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|