نماذج من الأخلاق الحميدة في غزوة الفتح (2)
4- التواضع:
وقد سُئل الفضيل بن عياض رحمه الله عنه، فقال: أن يخضع للحق وينقاد له ويقبله ممن قاله. وقيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة، فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب[1].
وحقيقة التواضع: إلانة الجانب مع عزة النفس، وإباء الضيم، ومن التواضع عدم الافتخار بالآباء والأجداد، ومن التواضع عدم البغي والاعتداء، وهو من الأمور الباعثة على التآلف، وهو من الأخلاق الكريمة التي أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، في قوله ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾[2] [3]. فقد كان عليه الصلاة والسلام، هينا لين الخلق جميل المعاشرة، من أشد الناس تواضعا ومن أبعدهم عن الكبر والترفع رغم ما حاز من الشرف الميزات التي أمتن الله تعالى عليه بها، فهو سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء.
ويقول مرغباً في التواضع: ((..وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))[4]، بل إن تواضعه للناس وهم أتباع، وخفض جناحه لهم وهو مطاع، يمشي في الأسواق ويمتزج بأصحابه، فلا يتميز عليهم، فصار بالتواضع متميزا، وبالتذلل معززا، يدخل عليه بعض الأعراب فيهابه، ويقف بين يديه يوم الفتح مرتعدا، فيقول له: ((هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد))[5] [6]، فرد نفسه لأصل بعيد كل البعد عن الفخر والكبر، فلم يفخر بحسب آبائه أو بمكانته ونصره، بل هون من شأن نفسه، وهو الذي نهى الناس في خطبته عن التفاخر والتكبر والتعاظم بالآباء، وأرجع الناس إلى أصل واحد وهو التراب، في خطبته: ((الناس بنو آدم وآدم من تراب))[7].
وفي المواطن التي تندفع فيها النفس نحو العلو والتجبر والاستكبار، كالانتصار على الأعداء، يتواضع عليه الصلاة والسلام، ويتخشع لله تعالى معترفا بنعمته عليه، كما رُويت صفة دخوله لمكة - وقد أعزه الله ونصره نصرا عظيما - فدخل وقد أزال من حوله زخرف الملك والسيادة والتكبر، مردفاً أسامة بن زيد رضي الله عنه خلفه، خافضاً رأسه[8] إجلالاً لله وشكراً حين رأى ما أنعم عليه من الفتح، حتى إن لحيته تكاد تمس راحلته من شدة تواضعه[9].
والتواضع لسائر الخلق، الأصل فيه محمود، ومندوب إليه، إذا قصد به وجه الله تعالى، ومن كان كذلك رفع الله قدره في القلوب، ورفع درجته في الآخرة، أما التواضع لأهل الدنيا، ولأهل الظلم، فذاك الذي لا عز معه، ويترتب عليه ذل الدنيا وللآخرة[10].
5-الوفاء:
وهو من الفضائل الخلقية التي تميز بها الإسلام، والقيم البارزة الضابطة للسلوك التي ربى عليها أتباعه المسلمين، وهو يشمل أداء الأمانات لأهلها، والوفاء بالعهود والمواثيق، والبقاء على العهد والصلة، وإيثار الحق، ويضاده الغدر والخيانة، وهي من رذائل الأخلاق، ومن مظاهر التخلف الحضاري، وهما من أخلاق الأمم التي تهون عليها أنفسها هوانا يرضيها بمواقع الضعة والانحطاط.[11].
والوفاء بالوعد وحفظ العهد من الخصال المميزة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يرى الغدر من كبائر الذنوب، ومساوئ الشيم، وكان يلتزم فيه بالأصعب حفظا لعهده، حتى يبتدئ معاهدوه بنقضه، فيجعل الله له مخرجا، كفعل قريش بصلح الحديبية[12]، حيث جعل الله نكثهم خيرا، وهذه الجدية في الوفاء بالعهد والحلف، تجعل الثقة لدى الآخرين بأن ينضووا تحت لواء المسلمين، لضمان نصرتهم وعونهم[13].
وقد تجلى هذا الخلق الكريم في وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخزاعة بما عاهدها عليه من النصرة، وتسييره الجيش العظيم انتصارا لها.
ومنه وفاؤه لعثمان بن طلحة رضي الله عنه برد مفتاح الكعبة له، رغم سؤال بعض قرابته له بأن يشرفهم بسدانة الكعبة، لكنه صلى الله عليه وسلم دعا عثمان وقال له: ((هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء))، ثم حثه على حسن القيام والوفاء بما عهد إليه به، فقال له: ((يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف))[14].
وكذلك وفاؤه للأنصار، حين ساورهم الخوف لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما على الصفا يدعو الله - وقد أمن قريشا وقضى على دابر الوثنية في مكة - أن يعِنَّ له الرجوع إلى مكة موطنه الأول، بعد أن فتحها الله له ويستبدل بها المدينة، وتهامسوا بذلك وقالوا: (أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته)، فشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامسهم، وسألهم عما قالوا، فترددوا في الإفصاح عما اختلج في صدورهم، ثم أعلنوا له مخاوفهم، فقال مبددا هذه المخاوف: ((كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم، والممات مماتكم))، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضَّن بالله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم))[15].
إنه لوفاء عظيم منه صلى الله عليه وسلم أن يضحي بأمر حبيب إلى نفسه، وهو العودة إلى وطنه الأول، والذي هو من أحب البلدان إليه، وفاء بهجرته لله تعالى أولا، ووفاء لهؤلاء الرجال الذين آزروه في شدته، واستضافوه في غربته، وناصروه في غزواته ضد الكافرين[16].
ومما يدل على الحث على الوفاء وذم الغدر، قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإذا استنفرتم فانفروا))[17]، فإنه يؤخذ منه ذلك، إذ معناه: لا تغدروا بالأئمة ولا تخالفوهم، لأن إيجاب الوفاء بالخروج، مستلزم لتحريم الغدر، وكذلك في قوله: ((إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار))[18]، إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغدر بقريش باستحلال القتال بمكة، با كان ذلك بإحلال الله تعالى له ذلك ساعة من نهار، ولولا ذلك لما جاز له، وهو من أوفي الناس بعهده[19].
6- العفو عند المقدرة [20]:
وهو التجاوز عن خطأ المسيء، وترك التعنيف عليه، أو عدم إيقاع العقوبة عليه حال التمكن من ذلك والقدرة عليه، ويرتقي هذا الخلق إلى الإحسان إلى هذا المخطئ بدلا من الانتقام منه أو تأديبه، وهذا الخلق الكريم لا يصدر إلا من النفوس الكريمة الحليمة التي يتحلى أصحابها بالعزيمة والقدرة على ضبط النفس.
وآثار هذا الخلق مباركة في الدنيا، وذلك حين يأسر المحسن الناس بإحسانه وعفوه، ويعز وتعظم مكانته في قلوبهم، وفي الآخرة بالعز والأجر الجزيل من الله والعفو عنه فالجزاء من جنس العمل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا))[21]، قال الإمام النووي: (فيه وجهان: أحدهما: أنه على ظاهره، وأن من عرف بالعفو والصفح، ساد وعظم في القلوب، وزاد عزه، والثاني: أن المراد أجره في الآخرة وعزه هناك)[22].
ومن شواهد هذا الخلق في غزوة الفتح:
• عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، حين أفشى سر الغزو وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بكتمانه، وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم حينها سبب عفوه عنه، وقلده وسام شرف أهل بدر.
• عفوه عن أهل مكة بعد تمكنه منهم، ورغم أن الموقف من المواقف التي تثور فيها حمية الانتقام والثأر عند معظم الناس، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان غاية في الرحمة والصفح والتجاوز لما عفا عنهم وأعتق رقابهم.
• عفوه عن غالبية من أمر بقتلهم، ولم يشملهم بالأمان الذي من به على أهل مكة، وكانوا قد اقترفوا من الجرائم ما استحقوا به القصاص، وتمادوا في خصومتهم، فنفذ حكم القتل في بعضهم، وفرَّ الباقون، ثم استشفع لهم بعض المسلمين فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعتهم وعفا عنهم.
• عفوه وحلمه عمن عقد العزم على اغتياله[23]، وأقدم على تنفيذ خطته، لكن الله تعالى حفظه وأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فعفا وغفر.
وقد نزل هذا العفو بردا وسلاما على تلك القلوب القاسية، التي طالما اضطرمت بالعداوة لهذه النفس الخيرة، وطالما أعماها الحقد عن مجاوبة هذا القلب الرحيم، فقد ظل صلى الله عليه وسلم قرابة عشرين عاما ينشر الخير والهدى لهؤلاء الناس، لكنهم عموا وصموا، وبادلوه مودة بعداوة وإحسانا بإساءة، ولما أظهره الله عليهم، نسي كل ما سلف من مساءاتهم له، وكافأهم بالعفو الشامل والصفح الجميل[24].
وفي مواقف العفو ظهرت حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، في وضع الأمور في مواضعها الصحيحة، فهو يصدر القرار المناسب في الوقت المناسب[25]، ويقبل الشفاعة ما دامت لحق متعلق به أو بغيره ممن ناله أذى قريش من أصحابه، ويرفضها إذا كانت مضادة لحكم الله عز وجل وحدوده، وقد قال تعالى: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾[26].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(وفُسرت الشفاعة الحسنة، بشفاعة الإنسان للإنسان، ليجتلب له نفعا، أو يخلصه من بلاء...فالشفاعة الحسنة إعانة على خير يحبه الله ورسوله، من نفع من يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق دفع الضر عنه، والشفاعة السيئة إعانته على ما يكرهه الله ورسوله، كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان، أو منع الإحسان الذي يستحقه)[27].
والعفو والتجاوز ليس على أي حال، فمن الظلم أن تنتهك حرمات الله، فلا يُغضب لها، وتجب الحدود فلا توقع أو تنفذ على بعض الناس لمكانتهم وشرفهم، أو تصل إلى الحاكم المسئول ثم يغض الطرف عنها ويقبل شفاعة الوسطاء فيها، كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لصفوان بن أمية رضي الله عنه، حين أراد أن يشفع لسارق كان قد اشتكاه له، ثم لما علم أن عقوبته القطع قال: إني لم أرد هذا، هو عليه صدقة. فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته بعد وصول القضية إليه، وقال له: ((فهلا قبل أن تأتيني به))[28].
فلا عفو إذا كان ذلك العفو سيحول دون إقامة حدود الله تعالى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن بركة إقامة حدود الله، أعظم بركة في الرزق من الثمار والأنهار[29]، فقال: ((إقامة حد من حدود الله، خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله عز وجل))[30]، وقد علق ابن تيمية رحمه الله على هذا الحديث بقوله: (وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق، والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة، فإذا أقيمت الحدود، ظهرت طاعة الله ونقصت معصية الله تعالى، فحصل الرزق والنصر)[31].
إن الأخلاق الفاضلة الكريمة تؤدي إلى تماسك المجتمع المسلم وترابطه، وتمكن أفراده من العيش متفاهمين متعاونين سعداء، فقد دلت التجارب الإنسانية والأحداث التاريخية، أن كل عصر يلتزم الناس فيه - حكاما وشعوبا - بمبادئ الأخلاق، يكون عصر ازدهار ورخاء وسلام، وكل عصر ينفصل فيه الناس عن الأخلاق، تشيع فيه الفتن وتقع الأزمات وتنهار القوى المعنوية لهم، تلازما مع انهيار أخلاقها[32].
كانت الدروس السابقة متعلقة بالركن الأول من أركان الدعوة: موضوع الدعوة، وهو الإسلام بما حوى من أمور متعلقة بالعقيدة، أو الشريعة، أو الأخلاق، والأساس في العملية الدعوية هو المبلغ لهذا الإسلام: الركن الثاني: الداعية، ولحسن التبليغ، ودقة الأداء، لا بد من تعهد هذا الداعية بالإعداد الخاص، مع مراعاة تميزه واتصافه بمجموعة من الصفات التي تؤهله لأداء هذه الرسالة، وهذا ما سيعرض في المقالات التالية.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|