أحداث ما قبل فتح مكة (2)
6- قدوم العباس رضي الله عنه:
قدم العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم بالجُحْفة[1] مهاجراً بعياله، وكان قد أسلم قبل فتح خيبر وكتم إسلامه، وأقام في مكة على سقاية البيت والرسول صلى الله عليه وسلم عنه راض[2]، (لعلمه بإسلامه باطنا، وأن إقامته بها لخوفه على ماله وعياله، وكان ينفع المستضعفين بمكة، وبه يثقون)[3]، فكان بقاؤه في مكة لمصلحة الدعوة، فلما أراد الله له الخير وفضيلة الهجرة، غادرها إلى المدينة مهاجرا قبل فتحها[4].
7- إسلام بعض زعماء قريش:
أثناء سير الجيش إلى مكة قدم بعض زعماء قريش ممن كانوا حربا شعواء على الإسلام، ومن ألد خصومه وأشدهم عداوة له لمدة عشرين عاماً، فأعلنوا إسلامهم، ففي ثنية العقاب[5] قدم ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب رضي الله عنه[6]، وعبدالله بن أمية بن المغيرة[7] - أخو أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنهما - فالتمسا الدخول عليه، وكلمته أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها في ذلك، وشفعت لهما عنده فقال: ((لا حاجة لي فيهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، أما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال))[8].
وكان أبو سفيان ممن اشتد هجاؤه وأذاه على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وأما عبدالله بن أمية فقد كان شديدا على المسلمين مخالفا مبغضا، وفيه وفي غيره من المشركين نزل قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ﴾ [9].
فلما علما بإعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عنهما قال أبو سفيان - ومعه ابن له: والله ليأذنن رسول الله أو لآخذ بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً أو جوعاً. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لهما فدخلا عليه.
وقيل إن علياً رضي الله عنه قال لأبي سفيان: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قاله إخوة يوسف ليوسف ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾[10]، فإنه لا يرضى أن يكون أحدٌ أحسن قولاً منه.
ففعل ذلك أبو سفيان فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾[11]، وقبل منهما إسلامهما.
فأنشد أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى منه، فقال:
لَعمْركَ إني يومَ أحملُ رايةً
لتغلبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ[12]
لَكالمدلجِ الحَيرانِ أظلمَ ليلُه
فهذا أوانُ الحقِ أُهدى وأهتدِي[13]
أفرُ سريعاً جاهداً عن محمدٍ
وأُدعى ولو لم انتسب لمحمدِ[14]
هم عُصبة من لم يقل بهواهُمُ
وإن كان ذا رأيٍ يُلَم ويُفنَدِ[15]
هداني هاد غيرُ نفسي ونالني
مع اللهِ من طَرَّدتُ كلَّ مُطَرَّدِ
فلما أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلى الله من طردت كل مطرد) ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: ((أنت طردتني كل مطرد))[16].
وقد حسن إسلامهما رضي الله عنهما، وانضما لجنود الإسلام وشهدا فتح مكة.
وكان أبو سفيان رضي الله عنه ممن ثبته الله مع نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وكان لا يرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً منه، وكذلك حسن إسلام عبدالله، وشهد حنين والطائف، ورُمي يومها بسهم فقتله.
8- إسلام أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه، وأخذه الأمان لأهل مكة:
عسكر المسلمون في مرِّ الظهران[17]، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار قوة الجيش الإسلامي وكثرته فأمرهم بأن يوقد كل واحد منهم ناراً[18]، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أن يصيب قلوب قريش بالرعب وتتزلزل نفوسهم، حين يرون هذه النيران العظيمة تضيء ظلام الصحراء، ويعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتاهم بجيش لا قبل لهم به، فتنهار معنوياتهم ويستسلموا للمسلمين دون أن تُراق الدماء.
وكان القلق قد أقضَّ مضجع قريش، وتزايد شعورها بأن هناك خطرا عظيماً وشيك الوقوع، فأرسلت أبا سفيان وحَكيم بن حزام وبُديل بن الورقاء - رضي الله عنهم ولمَّا يسلموا بعد - ليتحسَّسوا لها الأخبار، ففوجئوا بنيران المعسكر، واحتاروا في أمرها، فقال أبو سفيان: ما رأيت كالليلة قط نيراناً ولا عسكراً، فقال بُديل: هذه والله خُزاعة حمشتها الحرب، قال أبو سفيان: خُزاعة أقل وأذل أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
فلقيهما العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه وكان مشفقاً على قومه أن يدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عُنوة، فيكون في ذلك هلاكهم وذلَّهم، فخرج باحثاً عن بعض الحطابة أو صاحب حاجة يأتي أهل مكة، فيخبرهم بمكان الرسول صلى الله عليه وسلم، لعلهم يخرجون إليه ويستأمنوه قبل أن يدخل عليهم، وبينما هو كذلك إذ سمع حوار أبي سفيان مع بُديل، فنادى أبا سفيان فعرفه، فقال له: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله في الناس، واصباح قريش والله، قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: والله لئن ظفر بك ليضربنَّ عنقك. ثم أردفه خلفه وذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ له أمانا.
وفي طريقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعرف أبا سفيان فقال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك من غير عقد ولا عهد.
وحاول أن يسبقهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيأخذ الإذن بقتله قبل أن يجار، ولكن العباس رضي الله عنه تمكن من أخذ الأمان لأبي سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم وبيَّته تلك الليلة في رحله، فلما أصبح غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم رضي الله عنه بعد تردد، وشهد شهادة الحق.
ونظر العباس إلى نفسية أبي سفيان، ومركزه في قومه، وهو يعلم حبه للفخر، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل له شيئا يعلي منزلته عند قومه، ويجبر انكساره بين يديه، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وقال: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)) ثم أعطي الأمان لسائر أهل مكة بشرط أن يستسلموا ويكفوا أيديهم عن القتال.
وبإسلام أبي سفيان رضي الله عنه يسقط أقوى قائد للمشركين بمكة، ثم أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحسم التردد في نفس أبي سفيان، وأن يقطع أي أمل قد يراوده بالوقوف في وجه المسلمين ومقاومتهم، فأمر العباس رضي الله عنه أن يحبسه عند مضيق الجبل، حيث تمر به كتائب الجيش الإسلامي، وكان الهدف من ذلك، أن يرى جنود الله وهم في أوج قوتهم وعلى أتم استعداد لقتالهم، لينقل هذا الوصف إلى قومه فيثبط محاولتهم للمقاومة والصمود أمام المسلمين.
وبذلك يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد اطمأن إلى تدهور معنوياتهم، وتخلخل نفسياتهم، وفقدان القدرة على المقاومة والرغبة في القتال، ويستسلموا للرسول صلى الله عليه وسلم دون قتال[19].
ونفذ العباس رضي الله عنه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار الجيش وعرضت القبائل ترفرف عليها راياتها، الواحدة تلو الأخرى والعباس يخبر أبا سفيان عنها، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، وهي من أعظم الكتائب، فراع منظرها أبا سفيان وتعجب وقال: ما لأحد بهؤلاء قِبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما. فقال العباس رضي الله عنه: يا أبا سفيان إنها النبوة. فقال: فنعم إذاً. فقال له: النجاء إلى قومك. فانطلق أبو سفيان رضي الله عنه إلى مكة[20].
وقد روى الإمام البخاري رحمه الله بعض هذه الأحداث: (لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا[21]، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبُديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة[22]، فقال أبو سفيان: ما هذه لكأنها نيران عرفة؟ فقال بديل بن ورقاء: نيران بني عمرو[23]. فقال أبو سفيان: عمرو أقل من ذلك. فرآهم ناس من حرس رسول الله فأدركوهم فأخذوهم[24]، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان، فلما سار قال للعباس: ((احبس أبا سفيان عند خَطْم الجبل[25] حتى ينظر إلى المسلمين)).
فحبسه العباس، فجعلت القبائل تمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة كتيبة، قال: يا عباس من هذه؟ قال: هذه غفار. قال: مالي ولغفار. ثم مرت جهينة قال مثل ذلك، ثم مرت سعد بن هذيم فقال مثل ذلك، ومرت سليم فقال مثل ذلك، حتى مرت كتيبة لم ير مثلها، قال: من هذه؟ قال: هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة [26] معه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة[27]، اليوم تستحل الكعبة. فقال أبو سفيان: يا عباس حبَّذا يوم الذِمار[28]. ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب[29] فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير بن العوام فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة، قال ما قال، قال كذا وكذا، فقال: ((كذب سعد[30] ولكن هذا يوم يُعظم الله فيه الكعبة ويوم تُكسَى فيه الكعبة))[31].
وعند ابن اسحق رحمه الله أن سعداً رضي الله عنه لما قال مقالته تلك، سمعها رجل من المهاجرين - قال ابن هشام رحمه الله: هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله اسمع ما قال سعد بن عبادة، ما نأمن أن تكون له في قريش صولة. فقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه(أدركه فخذ الراية منه، فكن أنت الذي تدخل بها))[32].
وقيل إنه صلى الله عليه وسلم لما أخذ الراية من سعد أعطاها لابنه قيس[33] رضي الله عنهما، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار إلى ابنه[34]، وقيل: إنه أعطاه للزبير بن العوام رضي الله عنه فدخل مكة بلوائين[35].
وجمع الحافظ ابن حجر رحمه الله بين هذه الأقوال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل علياً بأخذها لينزعها ويدخل بها، ثم خشي تغير خاطر سعد، فأمر بدفعها إلى ابنه قيس، ثم إن سعدا خشي أن يقع من ابنه شيء ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منه، فحينئذ أخذها الزبير[36].
9- استقبال أهل مكة لخبر غزو الرسول صلى الله عليه وسلم:
مضى أبو سفيان رضي الله عنه إلى مكة مسرعا، فأخبر قريشاً عن قوة المسلمين، وحذرهم من المقاومة والقتال، وأبلغهم بأمان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم شرط ألا يقاتلوا، وقال لهم: هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، وأمرهم باللجوء إلى داره أو إلى المسجد أو إلى بيوتهم، فتفرق الناس إلى بيوتهم[37].
10- الزحف إلى مكة:
قرر النبي صلى الله عليه وسلم الزحف إلى مكة، فقسم الجيش الإسلامي، وقام بتوزيع القادة، وقد قسم الجيش إلى ميمنة وجعل عليها خالد بن الوليد رضي الله عنه وأمره أن يدخل من اللِّيط[38] أسفل مكة، وكان معه من القبائل العربية أسلم وسليم وغفار ومزينة وجهينة، وأمره أن يغرز رايته عند أدنى البيوت.
والقسم الثاني الميسرة وكان عليها الزبير بن العوام رضي الله عنه، وأمره أن يدخل من كَدَاء[39] من أعلى مكة، وأن يغرز رايته بالحجون، ولا يبرح حتى يأتيه، وجعل أبا عبيدة على الرجَّالة، وأمره أن ينصبَّ لمكة في بطن الوادي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من كداء التي بأعلى مكة[40]، ونُصب له هنالك قبة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم خطته لتطويق مكة من جهاتها الأربع، لتحقيق هدفين في غاية الأهمية:
الهدف الأول: ضمان القضاء على أي مقاومة في أي جهة من مكة.
الهدف الثاني: تشتيت قوات قريش وتقسيمها إلى عدة أقسام لمقاومة كل جناح من أجنحة الجيش الإسلامي على انفراد، مما يحرم قريش من تركيز قواتها وحشدها في جبهة واحدة[41].
وقد سأل أسامة بن زيد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن رغبته في النزول بداره بمكة، فقال: (أين تنزل. في دارك بمكة؟ فقال: ((وهل ترك عقيل[42] من رباع أو دور؟))[43]، ثم اختار موضعاً يذكره بنعمة الله عليه ونصره ومنَّته عليه بهذا الفتح العظيم، فقال: ((منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخَيْف[44]، حيث تقاسموا على الكفر))[45]، وقد كان لواؤه يوم الفتح أبيض، ورايته[46] سوداء[47].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|