فائدة التاريخ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
إن الله سبحانه أشار في كتابه العزيز إلى علم شريف القَدْرِ، عظيم النفع، اهتم الناس في تسطيره وكتابته، وتقييد شوارده ومتعلقاته، مما يدل على عظيم فضله، وكبير أثره؛ وهو علم التاريخ: وهو علم يتضمن ذكر الوقائع والأحداث الجارية في حياة البشر، وذكر أوقات تلك الأحداث، وأسبابها، والأثر المترتب على ذلك.
كل ما قصَّ الله عز وجل في كتابه من قصص الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم، وما ذكره الله عز وجل من سِيَرِ الملوك والصالحين، وما أثبته الله عز وجل في كتابه من أحداث جَرَتْ في الأولين، وفي حياة سيد المرسلين - إنما هو من علم التاريخ الذي لا يكون إلا حقًّا.
وللتاريخ - عباد الله - أدوار:
فالدور الأول قبل أن يخلق الله عز وجل الناس:
قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود: 7].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض))[1].
ثم الدور الثاني للتاريخ:
وهو منذ خلق الله عز وجل الإنسان وجعله خليفة في الأرض:
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 30].
ثم جاء الدور الثالث للتاريخ:
وهو من بعد رفع المسيح عيسى عليه السلام بثلاثة قرون، إلى أن فُتِحت القسطنطينية عاصمة الروم الشرقية.
أما الدور الرابع للتاريخ:
فمن انتهاء الدور الثالث إلى يومنا هذا، وهو ما يُعرَف بالتاريخ المعاصر.
وأعظم هذه الأدوار - عباد الله - أخبار المرسلين وقصصهم، وما حدث بينهم وبين أقوامهم، وكان ذلك صراعًا بين الحق والباطل، بين عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له، وبين الشرك بالله سبحانه، ولا سيما سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياته الشريفة، منذ ولادته إلى وفاته، وما فيها من عبر ودروس وفوائد، ولا سيما منذ أن صَدَعَ بالدعوة إلى الله فهو في جهاد كبير وعمل صالح دؤوب، أُوذِيَ في الله ما أوذي مثله أحد، وَصَفَه المشركون بأوصاف لا تليق بمثله، عليه الصلاة والسلام، وما كان منه إلا الصبر والثبات واليقين بالله تعالى.
ضُيِّق عليه أشد التضييق، حُوصِرَ هو وآله ومن آمن معه في الشِّعب ثلاث سنوات، وقد أصابهم الجهد والَّلَأْواء والضنك، هاجر أصحابه إلى الحبشة، تركوا أوطانهم وأموالهم، ثم أذِن الله عز وجل له بالهجرة إلى المدينة، وقد سبقه من أصحابه إليها ممن لم يهاجر إلى الحبشة، أو ممن عاد منها، وقد ناصره الأنصار، وآخى بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، وأقام الله عز وجل به الدين، وأذن له بالجهاد في سبيله، ومرَّت عليه في المدينة أحداث عظيمة، رأى في غزواته من أصحابه من يُقتَل أمامه وهو صابر محتسب، ثبت أصحابه، وكانوا خيرَ مثالٍ في الإسلام، وخير مثال في الانقياد لله، وخير مثال في الإيمان بالله، وخير مثال في الجهاد في سبيل الله، حتى لحِقَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى، وأكملوا المسيرة بعده، رضي الله تعالى عنهم، وهكذا المجاهدون والعلماء والأئمة الأعلام من بعدهم: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران: 195].
قوم سطَّر القرآن أعمالهم، وكتب في التاريخ خصالهم، فصاروا خيرَ أُسوة لخير أمة؛ أمة الإسلام.
وإنما التاريخ - عباد الله - ليس لمجرد التسلية والمتعة؛ متعة القراءة أو متعة الاستماع، بل بتعليل الأحداث، وربطها، واستخلاص العِبَرِ النافعة، وتذكير الناس بها.
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: 5].
فأيام الله تُذكَر؛ ليُتذكَّر بها، وليعتبر منها.
وما زال في الأرض - عباد الله - أماكن تُذكِّر بعهدٍ قديم من آثار الأقوام، الذين أهلكهم الله عز وجل، وأحلَّ بهم لعنته وسخطه من الفراعنة في مصر، وثمود في شمال الجزيرة في مدائن صالح، في وادي العلا، وقوم لوط في تلك البحيرة البشعة المنتنة، وليس في هذه الأماكن - عباد الله - إلا الاتعاظ والاعتبار، وليس للهو واللعب والسياحة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم))[2].
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف: 105]، ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: 137، 138]، وقد يرينا الله عز وجل عزته في الأمم التي أهلكها لكفرهم وفسقهم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ [الفجر: 6 - 13].
كتب الموت على الخلق فكم
فلَّ من جيش وأفنى من دولْ
أين نمرود وكنعان ومَن
مَلَكَ الأرض وولَّى وعزلْ
أين عاد أين فرعون ومن
رفع الأهرام من يسمع يخلْ
أين من سادوا وشادوا وبنَوا
هلك الكل ولم تُغْنِ القُلَلْ
أين أرباب الحِجا أهل النُّهى
أين أهل العلم والقومُ الأُوَلْ
سيعيد الله كلًّا منهمُ
وسيجزي فاعلًا ما قد فعلْ
عباد الله، أيام الله متقاربة، وأحداث التاريخ متشابهة، وسُنَّة الله في خلقه لا تتغير ولا تتبدل: ﴿سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: 85].
والله المستعان.
اللهم انصر دينك، وأعْلِ كلمتك، وانصر عبادك المؤمنين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد عباد الله:
فإن أعظم ما يُذكَّر به في التاريخ أن يُقرأ التاريخ من مصادره الصحيحة، ورواياته الصادقة، فإن ما سوى خبر الله وخبر رسوله وخبر الثقات قد دخله دَخَنٌ، واعتراه الكذب والافتراء:
لا تقبلن من التوارخ كلما = جمع الرواة وخطَّ كلُّ بنانِ
بل خُذِ التاريخ من أهله المعتنين به؛ كابن جرير الطبري، وابن كثير الدمشقي، والإمام الذهبي، فقد كتبوا وعلقوا، وقد وقع من الفتن - عباد الله - بسبب الروايات المكذوبة والأحداث التي وجهت إلى غير وجهها، فَلْيَحْرِصِ المرء أن يتسلح بسلاح العقيدة، ولا سيما فيما حدث بين الصحابة الكرام، فالمسلم يُمسِك عما شَجَرَ بين الصحابة، ويَكِلُ الأمر إلى الله: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134].
وأعظم قوم وأقبح الناس في تزييف الحقائق وتغيير الأحداث هم اليهود وأشباههم؛ ألَا ترى أن الله عز وجل كذبهم لما حاجوا في إبراهيم؛ قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 67]، فأقام الله عز وجل عليهم الحجة بالتاريخ؛ حيث إن إبراهيم قد وُجِد قبلهم وقبل اليهودية وقبل النصرانية، نعوذ بالله عز وجل من الضلال وأهله.
اللهم ثبتنا على دينك القويم، وأعِذْنا من الشيطان الرجيم، وتوفَّانا يوم تتوفَّانا على الإسلام والسُّنَّة، اللهم اهدِنا ويسِّر الهدى لنا.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|