اللغو الباطل
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26].
التَّعتيم والتَّكتُّم وعدم الاستماع إلى صوت الحق، والتَّشويش على كل صوتٍ يدعو إلى مبدأ صحيح وهدف سام، وفَرْضُ حصارٍ على أصحاب الدعوات كي لا يوصلوا دعوتَهم، هي وسائل الضعفاء في مواجهة الحق في كل زمان ومكان، والاختلاف فقط في الشكل والطريقة التي يُمارسونها، أمَّا مضمونها واحد، وهدفها واحد. وهذا ما يُستفاد من دعوة الكفار في تلك الآية العظيمة إلى عدم الاستماع للقرآن، وإلى اللغو فيه.
المراد بعدم سماعه:
جاءت أقوال المفسِّرين (في المراد بعدم سماع الكفَّار للقرآن) متقاربة كما يلي:
1- لا تَتَّبعوا هذا القرآنَ والْهَوْا عنه، قاله ابن عباس - رضي الله عنهما [1].
2- لا تُطيعوا، يُقال: سمعتُ لك، أي أطعتُك[2].
3- لا تطمئنوا أو تركنوا [3].
والمقصود من ذلك كلِّه: لا تسمَعوا لقارئ هذا القرآنِ إذا قرأه، ولا تَصغوا له، ولا تَتَّبعوا ما فيه، وهو نتيجةٌ لعدم السَّماع، وإنْ سمعتموه فلا تطيعوه، ولا تركنوا إليه.
المراد باللَّغو فيه:
«اللَّغو: القول الذي لا فائدة فيه، ويُسمَّى الكلام الذي لا جدوى له لغواً»[4]. وممَّا جاء عن المفسِّرين في (لغو الكافرين) في القرآن ما يلي:
1- هو المكاء والتَّصفير والتَّخليط في المنطق حتى يصير لَغْواً، قاله مجاهد [5].
2- أكْثِروا الكلامَ ليختلطَ عليه ما يقول، قاله الضَّحاك [6].
3- تشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة، حتى تخلطوا على القارئ وتشوِّشوا عليه، وتغلبوا على قراءته [7]. وتلك هي عادة وطبيعة الإعلام المادِّي اليوم، والذي تبنَّى النَّزعات القديمة إزاء القرآن بما يُشبه أن يكون تطويراً للأسلحة.
والمراد بالذين كفروا هنا: هم أئمَّة الكفر يُخاطِبون عامَّتهم ويوصونهم. إنها كلمة يَغُرُّون بها الجماهير، فقد علم أئمَّة الكفر: أنَّ القرآن كلام الله تعالى. إذاً هو كامل في المعنى واللَّفظ، وأنَّ كلَّ مَنْ سمعه وقف على جزالة ألفاظه، وأحاط عقله بمعانيه، وقضى عقله بأنَّه كلامٌ حقٌّ واجبُ القبول، فدبَّروا تدبيراً في منع الناس عن استماعه [8]، فاتَّخذوا قرارهم المشين: ﴿ لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ ﴾.
وهذا هو حال دعاة الضَّلال والباطل في إسكات النَّاطقين بالحقِّ والحجَّة، فمن أساليبهم التَّخويف والتَّهويل، والتَّرهيب والتَّرغيب، ولا يتركون الناس يتجادلون بالحجَّة البيِّنة، ويتناظرون بالأدلَّة القاطعة؛ لأنهم يوقنون أنَّ حجَّة خصومهم أَنْهَضُ، فهم يغالبونها بالبهتان والتَّضليل.
فإذا أعيتهم الحِيَل ورأوا بوارقَ الحقِّ تخفق، وخَشُوا أن يَعُمَّ نورُها الناسَ، عدلوا إلى لغو الكلام، ونفخوا في أبواق اللَّغو لعلَّهم يغلبون بزعمهم [9].
إنَّهم بفعلهم هذا يلجأون إلى وسيلة خسيسة تُنبئ عن هزيمتهم الدَّاخلية، واضطرابهم النَّفسي أمام حقائق القرآن، واعترافهم - الضِّمني الملحوظ - بعجزهم عن مواجهته، وفشلهم في محاربته.
إنهم يطلبون من الجماهير المخدوعة ألاَّ تسمع لهذا القرآن، وتستعيض عن ذلك باللَّغو والصِّياح والضَّجيج، والتَّظاهرة الإعلامية؛ لعلهم يُغَطُّون نور الشَّمس برقعة منديل.. وهيهات هيهات!! فهذه حال هؤلاء الجهلة من الكفار، ومَنْ سلك مسلكهم عند سماع القرآن العظيم.
موقف المؤمنين:
وقد أمر الله عباده المؤمنين بخلاف هذا الفعل المشين، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 204].
وأهل الكفر حين فعلوا ما فعلوا غاب عن أذهانهم أن القرآن منتصر. ومَنْ تدبَّر العواقب أيقن - يقيناً لا شكَّ فيه - أنَّ كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السُّفلى. فلمن كانت الغلبة بعد قولهم: ﴿ لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26] ؟![10]. والحقُّ صوته عالٍ وإنْ حاول الجاحدون كتمَه والقضاءَ عليه، والحقُّ منتصرٌ لا محالة؛ لِسُنَّةِ اللهِ الماضية في الكون.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|