الإمام الحافظ إمام بيروت وسائر الشَّام والمغرب والأندلُس أبو عمرو عبدُ الرحمٰن بن عمرو بن يُحمد الأوزاعي. فقيه ومُحدّث وأحد تابعي التابعين وإمام أهل الشام في زمانه. أُضيف إلى ألقابه في العصر الحديث لقب إمام العيش المُشترك في لُبنان لِما مثَّلته مواقفه في عصره من تسامح مع النصارى واليهود من أهل الشَّام، ولُقِّب بِشفيع النصارى لِموقفه الحازم في مُواجهة والي الشَّام والخليفة العبَّاسي أبي جعفر المنصور، اللذين عزما على إجلاء أهالي جبل لبنان النصارى بعد أن ثارت جماعة منهم وتمرَّدت على العبَّاسيين وشقَّت عصا الطاعة، فرفض الأوزاعي إجلاء هؤلاء كُلِّهم طالما أنَّ فئةً منهم فقط كانت من ثارت، ووقف بوجه الخِلافة بِعناد مُذكرًا أهل السُلطة بالعدل بين الناس وأنَّ خطأ فئة لا يستوجب مُعاقبة الجماعة، فأُبطل هذا القرار، وسلم أهالي جبل لُبنان من تعسُّف السُلطة، وحفظوا لِلأوزاعي جميله.على الأرجح وُلد الأوزاعي في بعلبك، وعاش فترة من صباه في قرية الكرك البقاعيَّة يتيمًا فقيرًا، ثُمَّ انتقل مع أُمِّه إلى بيروت. وكان قبل ذلك قد عاش مع عائلته في دمشق، وتنقَّل بين حلب وحماة وقنسرين وسواها. أُطلق عليه اسم «الأوزاعي» نسبةً إلى «الأوزاع» وهي قبيلة يمنيَّة حميريَّة من بطن ذي الكلاع من قحطان. نزل أفرادٌ منها في دمشق قرب باب الفراديس، وقد أُطلق على المنطقة التي نزلوا فيها اسم قرية «الأوزاع». لم يذكر المُؤرخون والفُقهاء والعُلماء شيئًا عن والد الإمام الأوزاعي باستثناء ما أشار إليه الإمام نفسه، ولا عن والدته أو أخواله، غير أنَّهم أشاروا إلى أنَّه كان له عمٌّ واحد، والثَّابت أنَّهُ تزوَّج أكثر من مرَّة، ورُزق بِثلاث بنات وصبيٍّ واحد، وكان له حفيدان من بناته بِحسب الظاهر.عاش الأوزاعي في عهدين سياسيين هامين، فشهد نهاية الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، وعاصر من الخُلفاء: الوليد بن عبد الملك، وسليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك، وهشام بن عبد الملك، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ومروان بن محمد، وأبا العباس السفاح، وأبا جعفر المنصور. وكانت الفترة التي عاشها الإمام الأوزاعي تزخر بِالعلم والعُلماء والفُقهاء والقُرَّاء والمُحدثين، ومن أبرز عُلماء تلك الفترة الأئمَّة: مالك بن أنس، وجعفر الصادق، وسفيان الثوري، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وأبو حنيفة النعمان، والليث بن سعد، وسواهم. وكان الأوزاعي من المُتفوقين علميًّا وفقهيًّا وجُرأةً على الكثير من عُلماء عصره، وقد أفتى وهو في الثالثة عشرة من عمره في مسائل فقهيَّة، بينما أفتى وهو في السابعة عشرة من عمره في مسائل عقائديَّة. وكان الأوزاعي مؤمنًا أشد الإيمان بالقاعدة الإسلامية «الرحلة في طلب العلم»، لذا تنقل في مُدن الشَّام وفي اليمامة والبصرة والمدينة المنورة وبيت المقدس، وحجَّ أكثر من مرة، لِذلك فقد تعمَّق في العُلوم الدينيَّة والشرعيَّة بِشكلٍ لافتٍ لِلنظر. أمَّا فيما يختص بالقضاء فقد رفض الأوزاعي منصب القضاء في العصرين الأُموي والعبَّاسي، فلمَّا وُلي زمن يزيد بن الوليد جلس مجلسًا واحدًا ثُمَّ استعفى، إيمانًا منه بِأنَّ القضاء مسؤوليَّة إسلاميَّة ضخمة لا يُمكن لِأي إنسان أن يتحمَّل وزر مسؤوليَّتها.وكان الأوزاعي من كبار الأئمَّة المُدافعين عن الإسلام والسُنَّة النبويَّة، لا سيَّما في فترة تزايد البدع والجدل والانحراف عن القُرآن والسُنَّة،
كما كان حريصًا على الجهاد والرباط والدفاع عن المظلومين وعن الحق، وكان استقراره في ثغر بيروت بدافع الرباط ورد الاعتداءات عن ديار الإسلام، وكانت الفترة التي قضاها في بيروت أكثر سني حياته المُنتجة والغزيرة، ففيها طوَّر مذهبه، وانتشر في كافَّة أنحاء الشَّام وانتقل إلى المغرب والأندلُس، لِيكون خامس مذاهب أهل السنة والجماعة، لكن لم يُكتب لمذهبه البقاء، فاندثر بعد أن لم يهتم تلامذته بتدوينه والحفاظ عليه، فحل مكانه المذهب الحنفي والشافعي في الشَّام والمالكي في المغرب والأندلس. توفي الأوزاعي في بيروت سنة 157 هـ، وكانت جنازته كبيرة وقيل أن من شارك فيها من النصارى واليهود كان أكثر ممن شارك من المسلمين، وأنَّ قسمًا من هؤلاء أشهر إسلامه يومها. دُفن الأوزاعي في قرية «حنتوس» جنوب بيروت، وشُيِّد على قبره مقام ومسجد عُرف بِمسجد الإمام الأوزاعي، ومع مُرور السنوات تغيَّر اسم القرية حتَّى أصبحت تُعرف بـ«الأوزاعي»، وشكَّلت جُزءا من بيروت الكُبرى مع مرور الزمن.
تقديرًا لإنجازات الإمام الأوزاعي ورمزيَّته في بيروت، أُنشأت كُليَّة لِلدراسات الإسلاميَّة في المدينة سُميت باسمه: كُليَّة الإمام الأوزاعي لِلدراسات الإسلاميَّة، وأُصدر طابع بريدي تذكاري سنة 2009م عن وزارة الاتصالات في لُبنان بعد موافقة مجلس الوزراء، وتبنَّت بلديَّة بيروت اقتراح المؤرخ الدكتور حسان حلاق بتسمية ساحة سوق الطويلة في وسط بيروت التجاري بساحة الإمام الأوزاعي، وبإعادة ترميم زاويته القائمة في ذات الساحة منذ عصره حتَّى اليوم.