هجرة الأنبياء
الهجرة أنواع؛ من يهاجر لطلب الرزق، ومن يهاجر لطلب العلم، ومن يهاجر لطلب الأمن، ومن يهاجر فرارًا بدينه، وأعظم الهجرة: هجرة الأنبياء والمرسلين ومن على دربهم من التابعين والمؤمنين، الذين يؤمنون بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا.
يهاجر المؤمن مواجهًا الأخطار، ومصارعًا الأشرار، ومرابطًا بالليل والنهار وهو يعلم أنه قد يهلِك أولَ الطريق أو آخره، ليس من أجل دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، وإنما يهاجر حفاظًا على عقيدته، إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش، إيمان بالله: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 70]، إيمان يوجهنا نحو الجهاد والعقيدة، نحو السمو والعلو، نحو السباق والإشراق، نحو الإحسان والرضوان، نحو النجاح والفلاح! هجرة التحرير، نعم، حرر الله عقيدتهم من الأوثان إلى الإيمان، وقلوبهم من القسوة إلى الرحمة، وعقولهم من الضلال إلى الهدى، ونفوسهم من التنابز بالألقاب إلى ذكر رب الأرباب! فكان ما كان من هؤلاء الذين سطروا مستقبلاً باهرًا لهذه الأمة؛ سلوكًا وأخلاقًا، صفاءً ونقاءً، حبًّا وإخاءً، تقديرًا واحترامًا، مجدًا وتاريخًا، إنه الإيمان الذي يطبب لك الدنيا، ويبني لك الآخرة، ويجمِّل لك الحياة، على أي لون كانت الحياة! قويًّا أو ضعيفًا، غنيًّا أو فقيرًا، سقيمًا أو سليمًا، حاكمًا أو محكومًا، الإيمان الفاعل لا الإيمان المخدر، تجده مع الحاكم حاجزًا ألا يظلم، ومع القوي عاصمًا ألا يستبد، ومع الغني هاديًا ألا يطغي، ومع الفقير راشدًا ألا يسأل الناس إلحافًا، بل يأكل بالمعروف! وهذا ما كان عليه جيل الصحابة من المهاجرين والأنصار.
إن من أعظم الهجرات وأعلاها مقامًا هجرة الأنبياء والدعاة، وممن هاجر من الأنبياء نوح وإبراهيم ولوط وصالح وموسى ومحمد عليهم السلام.
ومحمد - عليه الصلاة والسلام - مكث يدعو قومه في مكة ثلاثة عشر عامًا فما استجاب لدعوته إلا القليل، حتى هاجر وصحبه الكرام إلى المدينة، بينما هاجر الصحابة الهجرة الأولى إلى الحبشة.
والهجرة فى تاريخ الأنبياء السابقين كان سببها التهديد بالطرد والنفي كأحد صنوف الإيذاء التى واجهها الأنبياء السابقون وأتباعهم، وما زال هو السبب الرئيس عند الطغاة لإيذاء الدعاة، وما زال العزل أو النفي هو طريقَ المفسدين لإبعاد المصلحين!
هذا شعيب - عليه السلام - هدَّدوه بالإخراج من قومه ووطنه، وإلا... ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [الأعراف: 88].
وهذا إبراهيم - عليه السلام - هدده أبوه بالرجم أو بالطرد: ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46]، وهذا لوط - عليه السلام - إما أن ينتهي عن دعوة الناس للحق أو يخرج: ﴿ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴾ [الشعراء: 167]، ولم ينتهِ لوط، بل أعلن: ﴿ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ﴾ [الشعراء: 168]؛ أي: المبغِضين، فما كان إلا الإخراج، بحجة أنهم أناس يتطهرون: ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ﴾ [النمل: 56]، وجاء الوحي للوط عليه السلام يأمره بالهجرة، وترك هذه القرية العاصية.
كان الرسل يعتصمون بالله، لا يتجهون إلا إليه، ولا يستعينون إلا به، ولا يتوكلون إلا عليه، صابرين على الكيد والمكر، متحملين الظلم والأذى: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا ﴾ [إبراهيم: 12]، فقُوبلوا بالكفر أو الطرد: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [إبراهيم: 13].
ومع محمد صلى الله عليه وسلم وافق برلمان الشر في مكة على قتله قبل أن يهاجر: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، فليطمئنَّ أصحابُ الدعوات إلى أمر الله، أعوان الشيطان لا يعطلون الدعوة، ولا يقفون في طريق الدعاة! كيف؟!
عندما اجتمعوا أمام بيته ليقتلوه كان يتحصن بآيات الله: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾ [يس: 9]، فخرج سالِمًا غانمًا يحثو على رؤوسهم التراب!
وعندما وصل الغار كانوا خلفه، فقال أبو بكر: لو نظر أحدهم إلى قدمه لرآنا! وهنا يتجلى عنصر الثقة بالله بعد الأخذ بالأسباب، كيف؟! ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا!))، وخرج سالِمًا من الغار يستقبل آيات الله: ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85].
وعندما لحق به سراقةُ ليسلِّم رأسه ويفوز بالجائزة، سمع منه ورأى وجهه، وشاهد آيات الله عندما ساخَتْ قوائم فرسه، فطلب منه النجاة، وعرض عليه السهام، فرفض رسول الله، ووعده بسوارَيْ كسرى، فتحول من طالب لرأسه إلى حارس يكفيه هذا الطريق!
وهاجر رسول الله، وأقيمت دولة الإسلام، وقضت على الشرك، وأدَّبت جبابرة الأرض، وقهرت طغاة البشر، ولبِس سراقة سوارَيْ كسرى في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتحقق الوعد الحقُّ لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|