مشاورة النبي لأصحابه قبل غزوة بدر
عقد مجلس الشورى:
أول عمل قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة استشارة الناس بالخروج لاعتراض عير أبي سفيان.
روى مسلم في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا[1]
تنبيهات على ما جاء في الحديث:
الأول: زعم بعضهم أن ذكر سعد بن عبادة في هذا الحديث وقع خطأ، وأن الصواب سعد بن معاذ؛ لأن سعد بن عبادة لم يشهد بدراً، والجواب أنه لا وهم في ذلك، فإن الاستشارة وقعت مرتين[2]، مرة بالمدينة، وهو ما جاء في هذا الحديث، حيث أجاب سعد بن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أجابه به، وذلك صريح قوله في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، والأخرى في الطريق، ولكن المجيب فيها سعد بن معاذ كما سيأتي.
الثاني: من الملاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار الناس أكثر من مرة، وهذه طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذاً منه بتوجيه الله له بقوله تعالى: ﴿ وَشَاْوِرْهُمْ فِيْ الأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، إلا أن الذي يجب التنبه له في هذه الغزوة خاصة هو أن بعض بنود الاتفاق في العقبة لم تكن واضحة وضوحاً كافياً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخوف من أن الأنصار لم يكونوا يرون الخروج بهم على عدو خارج المدينة، غير أن أصحاب الإيمان الصادق لا يتشبثون بالشبهات؛ للتخلص مما يوجبه عليهم دينهم، أو مروءتهم وأخلاقهم، فهذه الطريقة إنما يستعملها المنافقون، كما نبه الله على ذلك في مواضع كقوله عنهم: ﴿ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ ﴾ [آل عمران: 167]، وقول بعضهم: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ﴾ [التوبة: 49]، وغير ذلك.
اختيار الله تعالى لأهل بدر:
قد يكون وقوع كثير من الأمور مصادفة، ولكن هذا إنما يكون هذا بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى فعل الله عز وجل فليس ذلك من قبيل المصادفات، فالله عز وجل عليم خبير، أحاط علمه بكل شيء، ووسع كل شيء علماً، فلا يقع شيء في هذا الكون إلا بعلمه وتقديره، فموفق ومحروم، وهكذا ما وقع في هذه الغزوة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجزم على أحد بالخروج.
"وكان الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المرة يحسبون أن مضيهم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوا في السرايا الماضية، ولم يدر بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيام الإسلام، ولو علموا لاتخذوا أهبتهم كاملة، ولما سمح لمسلم أن يبقى في المدينة لحظة"[3].
قال الواقدي: "وأبطأ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر كثير من أصحابه، كرهوا خروجه، وكان فيه كلام كثير واختلاف، وكان من تخلف لم يُلَم؛ لأنهم ما خرجوا على قتال، وإنما خرجوا للعير، وتخلف قوم من أهل نيات وبصائر، لو ظنوا أنه يكون قتال ما تخلفوا، وكان ممن تخلف أسيد بن حضير، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له أسيد: الحمد لله الذي سرك وأظهرك على عدوك، والذي بعثك بالحق، ما تخلفت عنك رغبة بنفسي عن نفسك، ولا ظننت أنك تلاقي عدواً، ولا ظننت إلا أنها العير. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صدقت"[4].
روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، وفيه: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتكلم فقال: "إن لنا طلبة، فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا"، فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة، فقال: "لا، إلا من كان ظهره حاضراً"، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر[5].
وصدق الله القائل: ﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|