التفكر قبل نزول الوحي

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأزواجه وذرياته وصحبه ومن اتبع بالإحسان هديه.



هنا في مكة يعيش محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ابن الأربعين عامًا، بعيدًا عن بلاد العلوم ومهد الحضارات والنبوات الكثيرة، بعيدًا عن القاهرة وإيطاليا وأثينا التي احتضنت فيثاغورس وسقراط وأفلاطون، ذلك الأفلاطون عرَّف الفلسفة بأنها:

"السعي الدائم لتحصيل المعرفة الكلية الشاملة، التي تستخدم العقل وسيلةً لها، وتجعل الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها"[1].



لم يتمثَّل أحدٌ - ولن يفعِّل - ديمومة السعي لتحصيل المعرفة وشموليتها وكليتها، وعقلانية منهجها، وصدق ونبل غايتها، كما تمثَّل محمد بن عبدالله.



فأما الديمومة فكل لحظة من حياته كانت على هذا النحو، والدليل أن عقلَه لم يغِبْ يومًا عبثًا كحال أترابه بولوجهم عالم المسكِرات، ولا أفسد منظومة تفكيره بالكذب، فلم يُؤثَرْ عنه ذلك قط، ولا طرَد داعيَ الخُلق والحِلم من نفسه؛ فلا ظُلم ولا خيانة ولا زنا ولا عبادة أوثان، كان عقله وقلبه يأنفانِ - بهداية من ربِّه - أن يتلوَّث بما يخالف المروءةَ والحِلم، وكان في العرب وغيرهم مَن يأخذ ببعض هذه الفضائل، ويسعى لدَرَكِ أوجهٍ من تلكم الكمالات، أما أن يجتمعن في أحدٍ فقد هيّأ اللهُ لها مُحمَّدها الزكيَّ.



وأما الشمولية والكلية فما تفرَّغ للشعر، كان يستهويه أجودُه وأحكمه وأعدله، وبغض إليه الشعراء في غواياتهم الدنيئة، ولا عمد إلى عِلم سافر لطلبه للنبوغ فيه كالطِّبِّ كما فعل الحارث بن كِلدة[2] مثلاً، الذي سافر إلى اليمن لأجله وبرع فيه وذاع صِيته به، أو في صنعة من الصناعات التي كانت معالِمُها تمر على مكة، أحد مراكز التجارة بين القارات، وهو يرى أثَرَ الإبداع البشري فيها، ولا قاده التأمُّل والربانية إلى التنصُّر أو التهوُّد وقراءة كتب أهل الكتاب، كما فعل كثيرٌ من العرب؛ ذلك أن مثالبهم لا تخفى على ذي حِجْرٍ مِثلِه.



وكأنما ألهم أن ذلك كله عبَثٌ ما لم يتصل بالحقيقة الكبرى التي تمدُّ العالَمين بالحياة.



وهذه عقلانية المنهج، يرى ويسمع ويفكر ويعجَب ويتذوَّق جمال البيان وجمال العلم والصناعات ودقتها، ويُجيل حواسَّه فيما هو أرحبُ وأعظم صَنعة وخَلقًا، فيما وراء الإنسان وصُنعه.. إلى الليل والنهار والجبال والسماء والأرض، كان يستغل كلَّ ما عنده للوصول إلى المعرفةِ الكلية الشاملة: بالتفكُّرِ.



التفكر:

تأمُّله في البشر، وخَلْقهم، وأخلاقهم، وبيانهم، وثمار علومهم، وصناعاتهم، ومجتمعاتهم، وعاداتهم، وما يَدينون به لربهم وربِّه الذي أخذه الشوق إليه والحيرة فيه كل مأخذ وهو يبتغي منفذًا مرشدًا، فيعي ويفقه سرَّ عوالِمَ تسير وَفْق نظام كامل شامل لا يستغرقه فِكر بشر، وأنَّى له؟!



جدُّه: إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهما نبيَّان رسولان، بنَيَا بيت الله الحرام، وغير بعيد عنه أهل الكتاب من اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهما السلام، وهما نبيَّان رسولان.



حيرة وتساؤلات وحوارات ذاتية متسلسلة متتالية كثيرة لا جواب لها عنده، ولا فيما تنوقل عن هؤلاء الأنبياء، أيجد جوابها:

♦ عند قومه من العرب المنتسبين إلى إبراهيم وإسماعيل وقد رأى قتلهم البناتِ، وازدراءَهم الفقراء، وقَطْعَهم الأرحام، وإتيانهم الفواحش، وعبادتهم حجارة؟ أيعقل أنه دينُ إبراهيم وإسماعيل؟!



♦ أم عند النصارى الذين اختلفوا مع اليهود، وكلاهما يزعم الهدى، وادَّعوا أنهم قتلوا إلههم؟ وهل عيسى هو الله أو ابن الله؟



ليل ونهار، مشرق ومغرب، شمس وقمر، سماء وأرض، ذَكَر وأنثى، سمع وبصر وفؤاد، وصِدق وكذِب وأمانة وخيانة، وحياة وموت.


إن ثمار هذا التأمل يجد بعضها حين ينزل من معتكفه الذي يمكث به اللياليَ ذواتِ العدد، ينزل إلى قلب مكة، إلى البيت الحرام يطوف به ويخالط الناس، ويستمع في أندية الحكماء والشعراء والعقلاء ما يهزُّ الوجدان، ويوقِظُ الخير في نفسه البشرية التي تطلب الكمال في تفكيرها وكلامها وأخلاقها وأعمالها.. في شأنها كله، وفي كل لحظة، ومن هؤلاء قسُّ بن ساعدة الإيادي، وأميَّة بن أبي الصلت، ولهما أشعار وخطب في التوحيد والاستدلال بعجائب المخلوقات على وجود الخالق، وفي الحديث عن المعاد بعد الموت.



وكان يسمع ويحس أسرار الغيبيات: الله والملائكة والجن والشيطان والأنواء والبعث والجنة والنار، التي خلط الناس الحكاية عنها بأساطير لا تقبل.



لقد عايش السياسة سلمًا وحربًا، والمجتمع بكافة شرائحه، فقره وغناه، عبده ومولاه، ذَكَره وأنثاه، وما ارتبط بذلك من تشريعات يعلم العربُ أنها كانت ممزوجة بما استحدثه كُبَراؤهم؛ كالنَّسيء في الأشهر الحرم، والبَحِيرة والسائبة والوَصِيلة والحامي، ووأد البنات خشية الفقر والعار، وأضرُبٍ للزواج فاسدة، وإغارة قبائل على بعضها البعض بغيًا وعدوانًا، وسندها أن مَن لا يظلم الناس يظلم.