تفاضل بعض أعمال البر قبل فتح مكة وبعده
تفاضل بعض أعمال البر قبل الفتح وبعده:
اختلفت موازين بعض الأعمال الصالحة بعد فتح مكة، الذي يعدّ مرحلة جديدة في سير الدعوة الإسلامية، وهذه الأعمال هي:
أ- الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم:
تغيرت أحوال المجتمع المكي بعد الفتح، فقد كانت قريش من أشد الناس مقاومة ومعاداة للدعوة الإسلامية، وآذت الرسول صلى الله عليه وسلم واضطهدت أصحابه، وطاردتهم بكل السبل، ومنعتهم من إقامة شعائر دينهم، حتى أذن الله تعالى بالهجرة، فهاجر المسلمون أولا إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وبدأ تأسيس الدولة الإسلامية فيها، ثم هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، فوجبت الهجرة على من أسلم بعد ذلك -بعد انتقال الرسول للمدينة- وأمروا بالانتقال إلى حضرته ليكونوا معه ويتظاهروا إذا حزبهم أمر، وليتعلموا منه أمور دينهم[1]، وكذلك كان فرضها في أول الإسلام لقلة المسلمين بالمدينة، وحاجتهم إلى الاجتماع، وسبب آخر في وجوبها على من أسلم؛ ليسلم من أذى ذويه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم حتى يرجع عن دينه [2][3].
وقد بينت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ذلك لما سُئلت عن الهجرة، فقالت: ( لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليوم يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية)[4].
وكان أهل مكة من أعدى أعداء المسلمين، فتبدل حالهم بعد الفتح وتحول مجتمع مكة الجاهلي إلى مجتمع مسلم موحد، وعز المسلمون بعد انكسار شوكة قريش، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم ارتفاع وجوب الهجرة إليه وانقطاع الهجرة، فقال: (( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم[5] فانفروا))[6]، وذلك بعد أن أنعم على رسوله وعلى المؤمنين بفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا، فلم يفرض عليهم مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان والانتقال إلى المدينة، ولكن بقيت المفارقة بسبب الجهاد، والمفارقة بسبب النية الصالحة، كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والحديث قد يشتمل على ما هو أعم من ذلك، فحكم الهجرة من مكة بعد فتحها، يشمل غيرها من البلاد فلا تجب الهجرة من بلد قد فتحه المسلمون[7].
أما أجر الهجرة مع النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها فقد مضى لأصحابه الذين هاجروا معه، ولم يبايع بعد الفتح أحدا على الهجرة، لأن ( الهجرة الممدوحة الفاضلة، التي لأصحابها المزية الظاهرة، إنما كانت قبل الفتح)[8]،فقد جاء مجاشع رضي الله عنه بأخيه للنبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الهجرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (( ذهب أهل الهجرة بما فيها)) فقلت-أي مجاشع-: على أي شيء تبايعه؟ قال: (( على الإسلام والإيمان والجهاد))[9].
كما روي يعلى بن أمية[10] رضي الله عنه قال: ( جئت بأبي يوم فتح مكة، فقلت: يا رسول الله، هذا يبايعك على الهجرة. فقال: (( لا هجرة بعد الفتح’ ولكن جهاد ونية))[11].
وقد حرص صلى الله عليه وسلم على عدم انقطاع هجرة المهاجرين، لما في ذلك من فوات الأجر العظيم، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو لأصحابه فيقول: (( اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم))[12].
وكما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح انقطاع الهجرة الفاضلة، فقد بين أن الهجرة بشكل عام لا تنقطع إلى يوم القيامة، بل هي مفروضة وباقية-ولا تعارض بين الأمرين-، لأن الهجرة التي انقطعت بالفتح فهي القصد للنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان[13]، وذلك للتلازم الحاصل بين الإيمان والجهاد والهجرة، ذلك أنه (لا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان)[14]، فقال صلى الله عليه وسلم: (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))[15].
فمن أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج لدار الإسلام فإن بقي فقد عصى[16]، وقد أوجب العلماء الهجرة على كل من لم يقدر على إظهار دينه في بلد يغلب عليها الكفر أو البدع المضلة، فلا يجوز للمؤمن أن يقيم ببلاد يُفتن فيها عن دينه، أو يُفتن أولاده، بأن يؤذى إذا صرح باعتقاده أو عمل بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنهم إن وجدوا بلدا غيرها، يتمكنون فيه من إقامة شعائر دينهم وجبت عليهم الهجرة إليه[17].
2- التفاضل في الجهاد والإنفاق قبل الفتح وبعده:
بعد أن عز الإسلام بفتح مكة، وذل الكفر وأهله، أصبح هناك تفاوت بين منزلة من أنفق في سبيل الله وجاهد مع رسوله صلى الله عليه وسلم قبل الفتح، وبين من أنفق وجاهد بعد أن قويت شوكة الإسلام وظهر ظهورا عظيما ودخل الناس في دين الله أفواجا، فقال تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [18].
فقد بذل السابقون من المهاجرين والأنصار ما وسعهم بذله من النفس والمال ساعة العسرة قبل الفتح[19]، لما كان الإسلام غريبا محاصرا من كل جانب قليل الأنصار والأعوان، وكان هذا البذل خالصا لا تشوبه شائبة طمع أو رياء، بل كان خالصا لله وحمية لدينه، وربما كان ما بذلوه من ناحية الكم قليلا بالقياس إلى ما أصبح الذين جاؤا بعد الفتح يملكون أن يبذلوه، فنزل القرآن ليزن بميزان الحق بذل هؤلاء وبذل أولئك، وليقرر أن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة، والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء، غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة، والأنصار كثر، والغلبة والفوز قريب المنال[20].
ومما يدل على فضل السابقين للإسلام ورضى الله تعالى عنهم، قوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [21]، كما بين عظم أجرهم وفضل ما بذلوا لنصرة الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: (( لا تسبوا أحدًا من أصحابي، فإن أحدا لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه))[22].
وقد وعد الله كلا الفريقين الحسنى ثواب ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء، وإنما ينبه لهذا لئلا يهدر جانب الآخر بمدح الأول دون الثاني، فيتوهم متوهم ذمه، فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه مع تفضيل الأول عليه.
وختمت الآية الكريمة بقوله ﴿ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ أي: فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول، وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق.[23].
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (( المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض، إلى يوم القيامة))[24]، فبين أن الطلقاء -وهم الذين عفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ولم يقتلهم، وقال لهم: أذهبوا فأنتم الطلقاء-، والعتقاء -وهم الذين أعتقهم بإسلامهم- فهؤلاء درجتهم واحدة، بعضهم أولياء بعض: أي كل واحد منهما أحق بالآخر، لأنهم لم يحصلوا المهاجرين والأنصار في الفضل، وشتان بين هؤلاء وهؤلاء[25].
وهذا التمايز والتفاضل في أعمال البر، يدل على أن لفتح مكة أثرا مهما في ميزان تقويم أعمال المسلمين، مما دفع من تأخر إسلامه إلى زيادة البذل والإنفاق في سبيل الله، وإلى التضحية بأرواحهم رخيصة في سبيل نصرة دينه والدعوة إليه، تعويضا لما فاتهم من الخير والأجر، عسى أن يلحقوا بركب الأوائل الذين جاهدوا وأنفقوا قبل الفتح[26].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|