برودة الإيمان
الحمد لله، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 102].
في هذه الأجواء الباردة تبرد البيوت والأجواء والأجسام، فيلجأ الناس لتدفئتها لينعموا بالدفء، كما قال الله تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [النحل: 5]، وهذا هو البرد الحسِّي الذي لا يؤاخذ الله عليه؛ لأنه من فعل الله سبحانه، لا دخل للإنسان فيه، وهناك برد معنوي؛ وهو برد الطبع، فتجد الرجل قليل الاكتراث، بطيء الاستجابة، لا نشاط فيه ولا فاعلية، قليل النفع، ثقيل الطبع، وهذا ليس بطبع المسلم؛ فإن المسلم إنسان فاعل متحرك لنفع نفسه ومجتمعه، ألا ترون الرسول صلى الله عليه وسلم دائبًا كل وقته في الدعوة إلى الله تعالى، يخرج صباحًا من بيته، ولا يعود إلا في الليل، يعود المرضى، ويعين الضعفاء، ويقضي بين الناس، ويدعو الضالين، ويصلح بين المتخاصمين، سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: ((من أصبح منكم صائمًا؟))، قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال صلى الله عليه وسلم: ((من تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال صلى الله عليه وسلم: ((من عاد منكم اليوم مريضًا؟))، قال أبو بكر: أنا، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة))؛ رواه مسلم، يومه رضي الله عنه مليء بفعل الخير، وبالفاعلية والنشاط والهمة العالية.
وليس حديثنا عن بارد الحس، وبارد الطبع؛ ولكن عن نوع ثالث من البرودة؛ وهي برودة الإيمان، الإيمان البارد هو الإيمان الذي لا يحرك صاحبه لتعلُّم علم، ولا اجتهاد في العبادة، ولا غيرة على الدين، يرضى بالدون من الفرائض، ويجهل أكثر أمور دينه، لا يهمه معرفتها، ولا يمتعض قلبه لرؤية منكر، ولا يفكر مجرد تفكير في نصح خاطئ، أو توجيه جاهل، مبدؤه عليك بنفسك، وكل إنسان حُرٌّ فيما يختار.
هذا الإيمان البارد لا يتأثر بآيات الجنة والنار، يمُرُّ على القرآن من أوَّلِه إلى آخره لا ينبض منه قلب، ولا يخشع له شعور، قال صلى الله عليه وسلم في حق الخوارج ضعيفي الإيمان: ((يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم))، ما فائدة القراءة إن كانت لا تقرب المسلم من الله؟! قال ميمون بن مهران: رُبَّ تالٍ للقرآن والقرآنُ يلعنه، المؤمن دافئ الإيمان يتجاوب مع القرآن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلا القرآن فمَرَّ بآية فيها سؤال سأل، وإن كان فيها تعوُّذ تعوَّذ، وإن كان فيها ترغيب رغب، وإن كان فيها ترهيب خاف، كما قال صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف: ((عُرِضَت عليَّ الجنة حتى لو مددت يدي تناولت من قطوفها، وعرضت عليَّ النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حَرُّها))؛ رواه أهل السنن.
الإيمان الدافئ الذي يكون صاحبه وقَّافًا عند آيات الله، إذا سمع أمرًا نفذ بلا تردد، وإذا سمع نهيًا توقف بلا تأخُّر، عندما نزل قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]، رموها من أيديهم ولم يُتِمُّوها، وعندما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي لبس خاتم الذهب: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده!))، ثم ألقاه في الأرض، فقيل للصحابي: خذه بِعْهُ، وانتفع بثمنه، قال: لا آخذه وقد طرحه رسول الله.
الإيمان الدافئ الذي يتجاوب صاحبه مع أفكاره الإيمانية يمشي باسم الله، ويقف بأمر الله، ويتكلم بإذن الله، سأل النبي صلى الله عليه وسلم حارثة بن مالك رضي الله عنه: ((كيف أصبحت؟))، قال: أصبحت مؤمنًا حقًّا، قال: ((إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟))، قال: عزفت نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: ((يَا حَارِثُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ)) ثَلاثًا؛ رواه الطبراني.
الإيمان البارد الذي لا يغار صاحبه على حرمات الله، روى الطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها، قال: إن فيها عبدك فلانًا لم يعصِكَ طرفة عين، قال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعَّر فيَّ ساعةً قط))، قال أبو بكر رضي الله عنه: إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]،وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه، أوشك الله عز وجل أن يعمَّهم بعقابه))؛ رواه أهل السنن.
فالإيمان الدافئ يحرِّك صاحبه لإصلاح المجتمع أفرادًا وجماعات، بدءًا بأهل بيته، لا يرضى أن تغرق السفينة وهو يتفرج عليها.
هذا الإيمان البارد يوشك أن يبلى في جوف صاحبه حتى تصبح العبادة عادة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الإيمان لَيَخْلَقُ في جَوف أحدكم كما يَخْلَقُ الثوب، فاسألوا الله أن يُجدد الإيمان في قلوبكم))؛ الطبراني والحاكم بسند حسن.
الخطبة الثانية
كيف تزداد حرارة الإيمان في قلوبنا؛ حتى تنشَط جوارحنا؟ قبل أن نُعالج هذا البرود الإيماني في القلب، لا بد أن يَعرف السالكون إلى ربهم أن أي إنسان يَعتريه نوع مِن الفتور والكسل، وأحيانًا يكون عنده حماس وجهد كبير في الطاعة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل عمل شِرَّة، والشِّرَّة إلى فترة، فمَن كانت فترته إلى سنَّتي فقد اهتدى، ومَن كانت فترته إلى غير ذلك، فقد ضلَّ))؛ أخرجه البزار، ورجاله رجال الصحيح.
العلاج الأول: فقه التعامل مع القلب والنفس، وهذا الفقه نأخذه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: "إن لهذه القلوب إقبالًا وإدبارًا، فإذا أقبلتْ فخُذوها بالنوافل، وإن أدبَرتْ فألزِموها الفرائض".
العلاج الثاني: الإكثار مِن ذكر الله، يقول ابن مسعود: "الذكر يُنبت الإيمان في القلب كما يُنبت الماء البقل".
العلاج الثالث: تطهير القلب بالتوبة والاستغفار، ومتى غفل الإنسان عنهما تدهور إيمانه، ولا يستطيع العبد أن يَتوب إلى الله توبة نصوحة إلا إذا أخذ المدَد والعَون مِن الله، فلولا الله ما اهتدَينا، ولا صمْنا ولا صلَّينا؛ ولكن لا بدَّ مِن صدْق التوجُّه إلى الله، فلا تَنكبُّ الجوارح على المعاصي، ثم يقول صاحبها: لو أراد الله لي الهداية والتوبة لتاب عليَّ، ونسي هؤلاء أن الله قال: "استهْدوني أَهدِكم"، فتُبْ قبل أن يَمحو الموت أثرك مِن الدنيا ليبقى شخصك في العذاب، واستغفر الله منيبًا إليه مُتيقِّنًا في رحمة الله وعفوِه مهما بلغَت ذنوبك، فالله ينادي عليك، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تبارك وتعالى: ((يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغتْ ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرْتني، غفرتُ لك ولا أبالي، يا بن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا، لأتيتُك بقرابها مغفرة))؛ رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ عَلَتْه سحابةٌ فأظلم، إذ تجلت عنه فأضاء))؛ رواه أبو نعيم بسند صحيح.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|