مشاهد من سورة الانفطار المكية.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله...
عجيبٌ هذا الزمن، فقد كثُرت فيه الْمُغريات والفتن، وتناسينا الجنة والنار وأهوال البعث والنشور، واستغرقنا في الملهيات حتى نسِينا أو بعضنا نسِيَ الكرام الكاتبين، وأن الله مُطَّلِع على جميع الأحوال، وأصبح التفكير ماديًّا دنيويًّا بحتًا؛ ولذا جاء القران الكريم دائمًا بتذكيرنا للرجوع إلى الحق والصواب، والرجوع إلى الإيمان وأركانه، ومن أعظم السور في هذا المقصد سورة الانفطار، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة الليل.
عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من سَرَّه أن ينظر إلى القيامة رأيَ عينٍ، فليقرأ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1]، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1])).
﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]: أي: انشقت؛ كما قال: ﴿ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ ﴾ [المزمل: 18].
﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾ [الانفطار: 2]؛ أي: تساقطت،﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾ [الانفطار: 3]، فجَّر الله بعضها في بعض، وقال الحسن: فجَّر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها، وقال قتادة: اختلط مالحها بعذبها.
﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾ [الانفطار: 4]؛ قال ابن عباس: بحثت، وقال السدي: تبعثر تحرك فيخرج من فيها، ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾ [الانفطار: 5]؛ أي: إذا كان هذا، حصل هذا.
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار: 6]، هذا تهديد لا كما يتوهمه بعض الناس أنه إرشاد إلى الجواب؛ حيث قال: ﴿ الْكَرِيمِ ﴾، حتى يقول قائلهم: غرَّه كرمه، بل المعنى في هذه الآية: ما غرك يا بن آدم بربك الكريم؛ أي: العظيم، حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق، كما جاء في الأثر: "يقول الله يوم القيامة: ابنَ آدم، ما غرَّك بي ابن آدم، ماذا أجبت المرسلين"، سمِع عمر رجلًا يقرأ: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار: 6]، فقال عمر: الجهل، وقال قتادة:﴿ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار: 6]، شيء ما غرَّ ابن آدم غير هذا العدو؛ الشيطان، وقال الفضيل بن عياض: لو قال لي: ما غرك بي، لقلت: ستورك المرخاة، وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا: نزلت هذه الآية في الأسود بن شريق، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُعاقَب في الحالة الراهنة، فأنزل الله: ﴿ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾ [الانفطار: 6، 7]؛ أي: ما غرك بالرب الكريم، الذي خلقك فسواك فعدلك؛ أي: جعلك سويًّا، معتدل القامة، منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال؛ قال الطبري رحمه الله: "واختلف القُرَّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة ومكة والشام والبصرة، ﴿ فَعَدَّلَكَ ﴾ بتشديد الدال، وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة بتخفيفها، وكأن من قرأ ذلك بالتشديد وجَّه معنى الكلام إلى أنه جعلك معتدلًا، مُعدل الخَلْقِ مقومًا، وكأن الذين قرؤوه بالتخفيف، وجهوا معنى الكلام إلى صرفك وأمالك إلى أي صورة شاء، إما إلى صورة حسنة، وإما إلى صورة قبيحة، أو إلى صورة بعض قراباته".
في المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يومًا في كفِّه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: ((قال الله عز وجل: ابن آدم، أنى تُعجِزني وقد خلقتُك من مثل هذه، حتى إذا سوَّيتُك وعدلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيدٌ، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقيَ قلتَ: أتصدَّق وأنَّى أوان الصدقة)).
وفي قراءة: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 8]؛ قال مجاهد: "في أي شبهِ أبٍ أو أمٍّ، أو خال أو عم"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة ((أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسودَ، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْرٌ، قال: فهل فيها من أورقَ؟ قال: نعم، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعَهُ عِرقٌ، قال: وهذا عسى أن يكون نزعة عرق))، وقد قال عكرمة في قوله: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 8]: "إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير".
﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾ [الانفطار: 9]: بل إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيبٌ في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب.
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]؛ يعني: وإن عليكم لملائكة حَفَظَة كرامًا، فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم، في الحديث: ((أكرموا الكِرامَ الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين؛ الجنابة، والغائط، فإذا اغتسل أحدكم، فليستتر بحرم حائط، أو ببعيره، أو ليستره أخوه)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله...
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [الانفطار: 13 - 19]، يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم، وهم الذين أطاعوا الله عز وجل، ولم يقابلوه بالمعاصي؛ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما سماهم الله الأبرارَ؛ لأنهم بَرُّوا الآباء والأبناء))، ثم ذكر ما يصير إليه الفُجَّار من الجحيم والعذاب المقيم؛ ولهذا قال: ﴿ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الانفطار: 15]؛ أي: يوم الحساب والجزاء والقيامة، ﴿ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴾ [الانفطار: 16]؛ أي: لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يُخفَّف عنهم من عذابها، ولا يُجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة، ولو يومًا واحدًا.
﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ [الانفطار: 17] تعظيم لشأن يوم القيامة ثم أكَّده بقوله: ﴿ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ [الانفطار: 18]، ثم فسره بقوله: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [الانفطار: 19]، لا يقدر واحد على نفع أحدٍ ولا خلاصه مما هو فيه، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى؛ قال قتادة: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [الانفطار: 19]، والأمر - والله - اليوم لله، ولكنه يومئذٍ لا ينازعه أحد، ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16][1].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|