حلف الفضول ونصرة المظلوم
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله، نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضلَ رُسلك، وأنزلت علينا خيرَ كُتبك، وشَرعت لنا أفضلَ شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
تذكير وتمهيد: تحدثنا في الخطبة الماضية عن رحلة الشام، وبداية ظهور صفات النبوة، واستفدنا من الدروس والعبر:
وجوب التصديق بدلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزاته.
شدة عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين، أكثر من النصارى، وشدة عداواتهم لنبي الإسلام، وأنه ما وَسِع أحدًا سمِع بالنبي صلى الله عليه وسلم يهوديًّا كان أو نصرانيًّا إلا اتِّباعه، والتحذير من الردة عن الدين والتنصير، والحذر من شبهات المستشرقين.
ولا يزال الحديث مستمرًّا حول حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وحديثنا اليوم عن حضور النبي صلى الله عليه وسلم حِلْفَ الفضول لنصرة المظلوم، فما قصة هذا الحلف؟ وما الدروس والعِبَر التي نستفيدها منه؟ موضوع خطبتنا باختصار.
عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ مَعَ عُمُومَتِي وَأَنَا غُلامٌ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ))[1]؛ والمراد بالمطيبين هنا: حلف الفضول، الذي كان في دار عبدالله بن جُدْعان، حضره النبي صلى الله عليه وسلم وعمره خمس عشرة سنة، فما سبب انعقاده؟
سببه أن رجلًا من زبيد- مدينة يمنية ولَّى النبي عليها أبا موسى الأشعري- قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، فحبس عنه حقَّه، فاستعدى عليه الزبيديُّ الأحلافَ؛ عبد الدار، ومخزومًا، وجمعًا، وسهمًا، وعدي بن كعب، فأبَوا أن يُعينوا على العاص بن وائل، وانتهروه- انظروا إلى عصبية الجاهلية يُقِرُّونه على الظلم- فلما رأى الزُّبَيْدي الشر، أوْفى على أبي قُبَيْس- جبل بمكة- عند طلوع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فنادى بأعلى صوته:
يا آلَ فِهْرٍ لمظلومٍ بِضاعَتُهُ
بِبَطْنِ مَكَّةَ نائي الدَّارِ والنَّفَرِ
ومُحْرِمٍ أشعَثٍ لم يَقْضِ عُمْرَتَه
يا للرِّجالِ وبَيْن الحِجْر والحَجَرِ
إن الحَرامَ لمن ماتت كرامتُه
ولا حَرامَ لِثَوْبِ الفاجِرِ الغُدَرِ
فقام في ذلك الزبيرُ بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مَتْرك؟ فاجتمعت هاشمٌ، وزُهرةُ، وتَيْمُ بن مرة، في دار عبدالله بن جُدْعانَ، فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في ذي القَعْدَة، في شهرٍ حرام، فتعاقدوا وتعاهدوا ليكونُنَّ يدًا واحدةً مع المظلوم على الظالم، حتى يُؤدَّى إليه حقُّه، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سِلْعة الزُّبَيْدي، فردوها إليه.
وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك:
حَلَفْتُ لنَعْقِدَنْ حِلْفًا عليهم
وإن كُنَّا جميعًا أهْلَ دارِ
نُسَمِّيهِ الفُضُولَ إذا عَقَدْنا
يَعِزُّ به الغَريبُ لذي الجِوارِ
ويَعْلَمُ مَنْ حَوالي البيتِ أنَّا
أُباةُ الضَّيْمِ نَمنَعُ كُلَّ عارِ
ولنا مع هذا الملخص[2] الذي سبق معنا ثلاث وقفات:
الوقفة 1: من ألِف الظلم استمر على الظلم: فالعاصي هذا- الذي تحدثنا عنه- رجل مماطل، فهو صاحب القصة مع خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ الصحابي، وكان خباب يصنع السيوف، فصنع سيفًا للعاصي، وأتاه لينقده ثمنه، فقال العاصي: لا أعطيك حتى تكفُر بمحمد، فقال له خباب: لا أكفُر حتى يُميتك الله، ثم تُبعث، فقال العاصي: وإني لميت ثم مبعوث؟! قال: بلى، قال: دعني حتى أموت وأبعث، فسأوتى مالًا وولدًا، فأقضيك- حق السيف- فنزلت الآيات: ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴾ [مريم: 77 - 80]، فكما ظلم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ظلم بعد بعثته؛ لأنه ألِف الظلم، فوجب الحذر من إدمان المعاصي.
الوقفة 2: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لحِلْف جاهلي؛ لأنه يحقق مقاصد الإسلام: ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي أَنْكُثُهُ))[3]، وكان من هديه الدعوة إلى العدل، ونبذ الظلم، فأنزل الله عليه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أرسله إلى اليمن: ((واتَّقِ دعوةَ المظلومِ، فإنه ليس بينها وبَيْن اللهِ حِجابٌ))[4]، وقال: ((انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: ((تحجزه، أو تمنعه، من الظلم، فإن ذلك نَصْرُه))[5].
فما أحوجنا في هذا الزمان إلى تفعيل إحياء حلف الفضول لمناصرة المظلومين؛ بل ما أحوجنا إلى تفعيل قيم العدل في المؤسسات التي خول لها تطبيق القانون كالمحاكم وغيرها، وإنك لتأسف إذا ضاعت العدالة فيمن يظن به تنفيذها.
فاللهم فَقِّهنا في سيرة نبيِّك، ونعوذ بك أن نَظلم أو نُظلم، آمين، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى، أما بعد:
رأينا في الخطبة الأولى مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول لمناصرة المظلومين، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، ودعوتنا إلى إحياء روحه في أنفسنا ومؤسساتنا.
ونختم بوقفة أخيرة مع عواقب عدم نصرة المظلوم:
عباد الله، لنا أن نسأل أنفسنا، أين فرعون وهامان؟ أين كسرى؟ أين قيصر؟ أين طواغيت الأرض ممن مضوا؟ أين قوم عاد وثمود ولوط؟ أين العاص الذي ظلم الزبيدي؟ أين صناديد قريش كأبي جهل وأمية بن خلف؟ أين كل ظالم؟ وأين كل تابع لمشروع الظلم؟
وأينَ مَن دوَّخُوا الدُّنيا بسَطْوتهم
وذِكْرُهم في الوَرَى ظُلْمٌ وطُغْيانُ؟
هل فارقَ الموتُ ذا عِزٍّ لعِزَّتِه
أم هل نجا منه بالسُّلْطانِ إنسانُ
لا والذي خَلَقَ الأكْوانَ مِنْ عَدَمٍ
الكُلُّ يَفْنَى فلا إنْسٌ ولا جانُ
قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإني سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا ظالمًا، فلم يأخُذُوا على يديه؛ أوشك أن يعمَّهم اللهُ بعقابٍ منه))[6]، والأمة يتأخَّر عنها النصر بسبب الظلم، ولو كانوا مسلمين، وينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، وهذه سُنَنٌ لا بُدَّ من معرفتها.
عباد الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((اتَّقُوا دعوةَ المظلومِ؛ فإنَّها تُحمَلُ على الغَمامِ، يقول اللهُ جلَّ جلالُه: وعِزَّتي وجَلالي لأنْصُرَنَّك ولو بَعْدَ حِينٍ))[7].
لا تَظْلِمَنَّ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرًا
فالظُّلْمُ مَرْتَعُهُ يُفْضي إلى النَّدَمِ
تنامُ عينُكَ والمظْلُومُ مُنْتَبِهٌ
يَدْعُو عليكَ وعَيْنُ اللهِ لمْ تَنَمِ
فاعفوا عمن ظلمكم؛ يكن أجركم على الله، كان الحسن البصري يدعو ذات ليلة: اللهم اعْفُ عمَّن ظلمني، فأكثر في ذلك، فقال له رجل: يا أبا سعيد، لقد سمِعْتُك الليلة تدعو لمن ظلمك حتى تمنيت أن أكون فيمن ظلمك، فما دعاك إلى ذلك؟ قال: قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، وأكثِرُوا من الدعاء الذي علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، قال له: يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: ((قل: اللهُمَّ إني ظلمْتُ نفسي ظُلْمًا كثيرًا، ولا يغفر الذُّنوبَ إلَّا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنك أنتَ الغفورُ الرحيمُ))[8].
فاللهم إننا ظلمنا أنفسنا ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم فقِّهنا في سيرة نبيك، واجعلنا ممن يتبعون هَدْيَه، واحشرنا في زُمْرتِه، واسقِنا شَربةً من حَوْضِه، لا نَظْمأ بعدها أبدًا، وارزُقْنا حُبَّه وحُبَّ من يُحبُّه، والعمل الذي يُبلِّغنا حُبَّه، آمين. (تتمة الدعاء).
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|