الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعدُ:
فمَنْ تأمَّلَ كُلَّ ما نهى اللهُ عنه من المُحَرَّمات، وجَدَ أنَّ مَرَدَّ ذلك كُلِّه إلى الظُّلْم؛ كالرِّبا، والزِّنا، والسَّرقة، وشُربِ الخمر، والغِيبة، والنَّميمة، والعقوق، والقَطِيعة، ولذا جاء في الحديث القُدسي: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا» رواه مسلم.
فالله تعالى مَنَعَ نَفْسَه من الظُّلم لِعِباده، كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [ق29؛ وقال: ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ [غافر: 31]. وهذا يدلُّ على أنَّ اللهَ سبحانه قادِرٌ على الظُّلْمِ، ولكن تَنَزَّهَ عنه فلا يفعله بِعِباده، مع قُدرَتِه عليه؛ فضلاً منه، وجُودًا، وكرمًا، وإحسانًا إلى عباده. ولولا أنه تبارك وتعالى قادِرٌ على الظُّلْم لَمَا كان هناك معنًى لِتَحْرِيمِه على نَفْسِه، فدلَّ ذلك على أنَّ الله عز وجل لا يُحِبُّ الظُّلْمَ، ولا الظَّالمين، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 57].
والظُّلْمُ نوعان: النَّوعُ الأول: ظُلْمُ الإنسانِ لِنَفْسِه، وأعْظَمُه الشِّرك؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]؛ فإنَّ المُشْرِكَ جعلَ المخلوقَ في مَنزِلَةِ الخالِقِ، فعَبَدَه وتألَّهَه. وأكثَرُ ما ذُكِرَ في القرآن من وعيدِ الظالمين إنَّمَا أُريدَ به المشركون؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة: 254]، فمَنْ ظَلَمَ نفسَه بالكفر والشِّرك، وماتَ على ذلك لا يَغْفِر اللهُ له أبدًا، ولا يَشُمُّ رائحةَ الجنَّة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ﴾ [النساء: 48]؛ وقال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ [المائدة: 72].
وأمَّا إذا ظَلَمَ العبدُ نفسَه بالمعاصي – دون الكُفر والشِّرك – وماتَ على التَّوحيد، فهو في مَشِيئةِ الله؛ إنْ شاءَ عذَّبَه بِعَدْلِه، وإنْ شاءَ غَفَرَ له وعَفَا عنه بِفَضْلِه. قال تعالى: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].
والنَّوع الثاني: ظُلْمُ العَبْدِ لِغَيرِه، وهو المَذْكورُ في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلاَ تَظَالَمُوا» رواه مسلم. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم – في حَجَّةِ الوداع: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» متفق عليه.
فمَنِ اعْتَدَى على أعراضِ وأموالِ ودماءِ الآخَرِين؛ فإنَّ اللهَ تعالى لا يغفر هذا الظُّلْمَ إلاَّ أنْ يتوبَ الظالِمُ، ويَرُدَّ الحقوقَ إلى المَظْلوم، ويُسامِحُه المَظْلومُ. وإنْ لمْ يفعل الظالمُ ذلك في الدنيا، فلا بد مِنْ أنْ يُمَكَّنَ المظلومُ لِيقْتَصَّ منه يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتُؤَدُّنَّ الحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الجَلْحَاءِ [التي لا قَرْنَ لَهَا] مِنَ الشَّاةِ القَرْنَاءِ [أي: التي لَهَا قَرْنٌ]» رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» رواه البخاري.
ومِنْ أجْلِ ذلك جاء التَّحذيرُ – في الكتاب والسُّنة – من الظُّلْم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 19؛ وقال سبحانه: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227]؛ وقال أيضًا: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه مسلم. وقال أيضًا: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» رواه البخاري.
عباد الله.. ما الواجِبُ علينا نَحْوَ الظَّالِمِ والمَظْلُوم؟ جوابُ ذلك: مُتَضَمِّنٌ في قوله صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟! قَالَ: «تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» رواه البخاري.
ومِنْ أمْثِلَةِ نُصْرَةِ الظَّالِمِ والمَظْلُوم:
1-إنْ وَجَدْتَ إنسانًا يريد أنْ يَجُورَ في وَصِيَّتِه؛ بأنْ وَصَّى بترِكَتِه للذُّكور، وحَرَمَ الإناثَ، أو قَسَمَ تَرِكتَه في حياته فأعطى الذُّكورَ وحَرَمَ الإناثَ؛ فهذا ظُلْمٌ وجَوْر، وتَعَدٍ لحدود الله، فإنك تَنْصُرُ هذا الظَّالِمَ بِمَنْعِه من الظُّلم، وتَذْكِيرِه بالموتِ والقبر، والوقوفِ بين يدي الله حتى يَتْرُكَ هذا الظُّلْمَ، ونَصَرْتَ الإناثَ المَظْلومات بأنْ وَصَلَ الحقُّ إليهنَّ.
2- إنْ رأيتَ محاميًا يريد أنْ يَظْلِمَ في قَضِيَّةٍ مَّا، بأنْ يجعلَ الحقَّ باطلاً والباطلَ حقًّا؛ فانْصَحْه وقُلْ له: هذا حرام، واللهُ تعالى سائِلُكَ يوم القيامة، والمظلومُ يأخُذُ حقَّه مِنكَ أمام الله سبحانه، فإن استجابَ لكَ فقد نَصَرْتَه؛ لأنك مَنَعْتَه من الظلم.
3-لو رأيتَ رجلاً متزوِّجًا بأكثر من امرأة، ولكنه يُريدُ أنْ يَمِيلَ إلى إحدى نسائِه، ويَظْلِمَ الأُخرى؛ فقل له: اتَّقِ اللهَ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لإِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ» صحيح – رواه النسائي.
الخطبة الثانية:
الحمد لله... عباد الله.. إذاً؛ نَمْنَعُ الظالِمَ من أنْ يَظْلِمَ بِعِدَّةِ أمور:
1- تَذْكِيرُه بأنَّ الظُّلْمَ حرامٌ، حَرَّمَه الله في كتابه، وحرَّمَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِه.
2- تَذْكِيرُه بِقُدْرَةِ اللهِ تعالى، فيُقال له: إذا دَعَتْكَ قُدرتُك على ظُلمِ الناسِ؛ فتذكَّرْ قُدرَةَ اللهِ عليك.