مهنة الخبازة
عمل الخبز مهنة من المهن الذى استوجب وجودها بناء المدن حيث لا توجد زراعة لمحاصيل الدقيق وأيضا استوجب بناءها وجود رجال الجيوش أو طلبة العلم بعيدا عن أسرهم فى القلاع وأماكن الرصد والمعسكرات أو فى المعاهد العلمية ومن ثم يتم استيراد المحاصيل أو الدقيق من القرى التى تزرعها ليتم عملها كخبز فى مخابز يسمونها أفران وهى أفران تخدم مجموع الناس
إذا ما أوجب إنشاء المخابز العامة هو الضرورة لتوفير الوقت والجهد على البعض
ويمارس الخبيز فى البلاد المختلفة على نوعين:
الأول الخبيز الفردى فى البيوت وهو غالبا فى القرى
الثانى الخبيز الجماعى فى أماكن مخصوصة تسمى أفران أو مخابز وهى غالبا فى المدن
وقد ذكر الخبز فى كتاب الله فى قصة يوسف(ص) فى السجن حيث كان أحد صاحبيه فى السجن قد رأى رؤيا وهى :
أنه يحمل فوق رأسه خبزا أى دقيقا مصنوعا للأكل أكلته الطير وفى هذا قال سبحانه :
" إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه "
ويقال :
أن هذا الرجل كان خباز الملك وهو الذى وضع له السم فى الخبز ولكن أمر السم انكشف قبل أن يأكله الملك ويبدو أن أحدهم تذوقه قبل الملك إنسان أو حيوان فمات على الفور
وقد نظمت كتب الحسبة عمل الخبازين وهم الفرانين ومنها كتاب معالم القربة فى طلب الحسبة لمحمد بن محمد بن أحمد بن أبي زيد بن الأخوة، القرشي حيث فصل أمورهم حيث قال :
"الْبَاب الثَّانِي عَشْر فِي الْحَسَبَة عَلَى الْفَرَّانِينَ وَالْخَبَّازِينَ:
يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُمْ الْمُحْتَسِبُ بِرَفْعِ سَقَائِفِ أَفْرَانِهِمْ، وَيَجْعَلَ فِي سُقُوفِهَا مَنَافِسَ، وَاسِعَةً لِلدُّخَانِ"
هنا مواصفات الفرن هى:
أن يكون سقفه عالى منعا للنيران أو الحرارة من إفساد السقف
أن يكون فى السقف منافس والمقصود فتحات تهوية كبيرة حفاظا على سلامة الفرانين وجدران الفرن
وقال عن النظافة :
"وَيَأْمُرَهُمْ بِكَنْسِ بَيْتِ النَّارِ فِي كُلِّ تَعْمِيرَةٍ، وَغَسْلِ البسليت، وَتَنْظِيفِ مَاءَهُ، وَغَسْلِ الْمَعَاجِنِ، وَتَنْظِيفِهَا، وَيَتَّخِذَ لَهَا أَبْرَاشًا كُلُّ بُرْشٍ عَلَيْهِ عُودَانِ مُصَلَّبَانِ لِكُلِّ مِعْجَنَةٍ"
هنا المطلوب من الفرانين :
كنس بيت النار بعد كل مرة والمقصود إزالة البقايا الموجودة فى الفرن من الردة المحروقة وقطع الخبز المبعثرة حتى لا تدخل فى العجين الذى يوضع على بلاطة الفرن فى المرة التى بعدها
غسل المواعين المستخدمة فى العجن وتطهير الماء الذى سيعجن به
وضع أبراش وهى بمثابة الحصر وهى البسط الحالية تحت المعجنة وهى وعاء العجين
وكل هذا حفاظا على سلامة الخبز وآكليه من الأمراض والأقذار
وتناول وجوب عجن العجان بيديه فقط وأن يكون لابسا ملابس معينة تمنع العرق والشعر وحتى العطس والتنفس فى العجين فقال :
"وَلَا يَعْجِنُ الْعَجَّانُ بِقَدَمَيْهِ، وَلَا بِرُكْبَتَيْهِ، وَلَا بِمِرْفَقَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَهَانَةٌ لِلطَّعَامِ، وَرُبَّمَا قُطِّرَ فِي الْعَجِينِ شَيْءٌ مِنْ عَرَقِ إبْطَيْهِ، أَوْ بَدَنِهِ، وَلَا يَعْجِنُ إلَّا، وَعَلَيْهِ مِلْعَبَةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمَّيْنِ، وَيَكُونُ مُلَثَّمًا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا عَطَسَ، أَوْ تَكَلَّمَ فَقَطَرَ شَيْءٌ مِنْ بُصَاقِهِ، أَوْ مُخَاطِهِ فِي الْعَجِينِ، وَيَشُدُّ عَلَى جَبِينِهِ عِصَابَةً بَيْضَاءَ لِئَلَّا يَعْرَقَ فَيَقْطُرُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَحْلِقُ شَعْرَ ذِرَاعَيْهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْعَجِينِ،"
إذا العجان له مواصفات خاصة فى لبسه لمنع سقوط أى شىء من جسمه فى العجين ونلاحظ أن تلك الاشتراطات الغرض منها سلامة الخبز وآكليه
كما نلاحظ أن العجن يتم بالأيدى الطاهرة النظيفة ويحرم العجين بأى جزء أخر من الجسم منعا لانتقال الأمراض أو القاذورات للخبز والعجان الآلى أغنى عن ذلك فى الوقت الحالى وإن كان الإنسان ما زال يتدخل فى الأمر من خلال وضع الدقيق والماء فى العجان ألالى ومن ثم تبقى الملابس المحددة مطلوبة ويبقى أن يكون وضع الدقيق والماء والخمير وغيره موضوع باليد الطاهرة
وتناول الكتاب وجوب الحفاظ على سلامة الخبز من الحشرات كالذباب حيث يتم تخصيص رجل معه مذبة أى منشة لطرد الذباب والحشرات إن كان الخبز نهارا وفى هذا قال الكتاب:
"وَإِذَا عَجَنَ فِي النَّهَارِ فَلِيَكُنْ عِنْدَهُ إنْسَانٌ عَلَى يَدِهِ مِذَبَّةٌ يَطْرُدُ عَنْهُ الذُّبَابَ"
وتناول الكاتب طرق غش الخبز وكيفية التعرف عليها حيث قال :
"وَيَعْتَبِرُ عَلَيْهِمْ الْمُحْتَسِبُ مَا يَغُشُّونَ بِهِ الْخُبْزَ مِنْ الْكُرْكُمِ، وَالزَّعْفَرَانِ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَإِنَّهُمَا يُوَرِّدَانِ، وَجْهَ الْخُبْزِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُشُّهُ بِالْحِمَّصِ، وَالْفُولِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَلْزَمُهُمْ أَلَّا يَخْبِزُوهُ حَتَّى يَخْتَمِرَ فَإِنَّ الْفَطِيرَ يَثْقُلُ فِي الْمِيزَانِ، وَالْمَعِدَةِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَلِيلَ الْمِلْحِ"
هنا يبين الكاتب بعض ألاعيب الخبازين فى غش الخبز ببعض الاضافات ويوجب عدم خبز العجين إلا بعد الاختمار
وتناول تعليمات أخرى تجعل الخبز طيبا وأهمها وضع الأبازير الطيبة الرائحة وعدم إحراق الخبز ووجوب نضجه حيث قال
"وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْشُرُوا عَلَى، وَجْهِهِ الْأَبَازِيرَ الطَّيِّبَةَ مِثْلَ الْكَمُّونِ الْأَبْيَضِ، وَالْكَمُّونِ الْأَسْوَدِ، وَالسِّمْسِمِ، وَالْيَانَسُونِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يُخْرِجُونَ الْخُبْزَ مِنْ بَيْتِ النَّارِ حَتَّى يُنْضَجَ نَضْجًا جَيِّدًا مِنْ غَيْرِ احْتِرَاقٍ"
وتناول وجوب تقسيم أجولة الدقيق على المخابز بمقادير محددة يوميا حتى لا ينتهى الأمر إلى فقد الخبز والمجاعة حيث قال :
"وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى كُلِّ حَانُوتٍ، وَظِيفَةً رَسْمًا يَخْبِزُونَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ لِئَلَّا يَخْتَلَّ الْبَلَدُ عِنْدَ قِلَّةِ الْخُبْزِ"
وبين أن الرقيب وهو المحتسب عليه أن يمر على الأفران بعد انتهاء العمل يوميا ويمنع الخبازين من المبيت فى الفرن ويأمر الخبازين بغسل الأجولة والفرش فى الفرن وتجفيفها بنشرها على حبال للغسيل وهو قوله حيث قال:
"وَيَتَفَقَّدُ الْأَفْرَانَ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ صُنَّاعِ الْخُبْزِ مِنْ الْمَبِيتِ فِي أَكْسِيَةِ الْعَجِينِ، وَلَا مَكَانِ فُرُشِ الْعَجِينِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِنَشْرِهَا عَلَى حِبَالٍ بَعْدَ نَفْضِهَا، وَغَسْلِهَا فِي كُلِّ، وَقْتٍ"
وفى فصل أخر تناول الخبازين لما أسماه الخبز البيتوتى وكرر التعليمات السابق ذكرها مع زيادة البعض
وهذه الأفران تخبز ما عجنته النساء فى البيوت وأرسلته للمخبز لينضج فيه ولذا سمى البيتوتى وفى الفصل قال :
"فصَلِّ الْحَسَبَة عَلَى فَرَّانِينَ الْخَبَز البيتوتي:
(فَصْلٌ) : وَيَأْخُذُ الْمُحْتَسِبُ عَلَى فَرَّانِينَ الْخُبْزِ الْبَيْتُوتِيِّ لِعِظَمِ حَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِإِصْلَاحِ الْمَدَاخِنِ، وَتَنْظِيفِ بَلَاطِ الْفُرْنِ بِالْمَكَانِسِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ عَنْ اللُّبَابِ الْمُحْتَرِقِ، وَالرَّمَادِ لِئَلَّا يُلْصَقَ فِي أَسْفَلِ الْخُبْزِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيُجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ غُلَامٌ يُعَلِّمُ بِهِ أَخْبَازِ النَّاسِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الْعَجِينِ فَلَا يَعْرِفُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ السُّمْكَ بِمَعْزِلٍ عَنْ الْخُبْزِ لِئَلَّا يَسِيلَ شَيْءٌ مِنْ دُهْنِهِ عَلَى الْخُبْزِ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الْعَجِينِ زِيَادَةً عَمَّا جَعَلَ لَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ"
والملاحظ هنا حرص المحتسب على العدل حيث يوجب وجود غلام أى عامل يعلم كل طبق باسم أهله وبداية خبز بيت فلان ونهايته حتى لا يأخذ أحد خبز أحد
ونلاحظ الحرص على عدم اختلاط الخبز بغيره من الطعام الذى يوضع فى الفرن كالسمك حتى لا يفسد طعمه
كل هذه الملاحظات والتعليمات وردت فى كتب الحسبة وهى كتب عمرها قرون كثيرة بعضها منذ أكثر من ألف سنة وهى أمور لم تعرفها البلاد التى يسمونها المتقدمة أو الراقية إلا مؤخرا وهو ما يؤكد أن تعاليم الإسلام تحافظ على سلامة البشر قبل أن يضعها القوم فى كتب تسمى بكتب الأمن والسلامة الصناعية والزراعية والمهنية