مبادئ علم الحديث
الحمد لله الذي نزَّل الكتاب تِبيانًا لكل شيء، وهدىً ورحمة وبُشرى للمسلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي نزل الله - تعالى - إليه الذكر؛ ليبين للناس ما نزل إليهم لعلهم يتفكرون، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أما بعدُ:
فإنَّ من نِعَم الله - تعالى - العظام أنْ أرسلَ إلى الناس عبده ورسوله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بشريعة معصومة غرَّاء، مَن تَمسك بها نجا، ومن ابتعد عنها هلك، وهذه السنة هي سلم الوصول إلى فَهم كتاب الله - تعالى - ورضاه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم خلق الله - تعالى - بمُراد الله - تعالى - وعليه نزل القرآن الكريم، وقد تكفل الله - تعالى - بحفظ هذا الدين، كما قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، فحفظ الله - تعالى - كتابه من التحريف والتبديل، كما جعله في صدور أوليائه من المؤمنين، الذين جعلهم أهلاً وخاصَّة له - سبحانه وتعالى - كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته))[1].
وإنَّ من حفظ الله - تعالى - لسُنَّةِ نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أن سخَّر لها جهابذةً حُفَّاظًا لِمُتُونها، باحثين وجامعين لمتونها، ويُميِّزون صحيحَها من سقيمها، نُقادًا لألفاظها وعللِها، من خلال علمٍ عُرف بعلم "الجَرْح والتَّعْدِيل"؛ حيث إنَّهم يبحثون ويمحصون في النظر في متن الحديث وسنده (إسناده) وفيهما معًا، مع تتبُّع أحوال الرُّواة وأوطانهم ومواليدهم وَوَفَيَاتهم، حتى يصلوا إلى الرُّواة العُدُول، وتثبت هذه العدالة بأحد أمرَيْن[2]:
أ- إمَّا بتنصيص مُعدِّلين عليها؛ أي: ينص علماء التعديل أو واحد منهم عليها.
ب- وإما بالاستفاضة والشُّهرة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم، وشاع الثناء عليه، كفى ولا يحتاج بعد ذلك إلى مُعدِّل ينص عليها، وذلك مثل الأئمة المشهورين كالأئمة الأربعة[3]، والسُّفْيانَيْن[4]، والأوزاعي[5]، وغيرهم؛ انتهى.
هذا، ويقبل التعديل[6] مِن غير ذكر سببه على الصحيح المشهور؛ لأنَّ أسبابه كثيرة يصعب حصْرها؛ إذ يحتاج المعدِّل أن يقول مثلاً: لم يفعل كذا، لَم يرتكب كذا، أو يقول: هو يفعل كذا، ويفعل كذا وكذا...
أما الجَرْح فلا يُقبل إلا مُفَسَّرًا؛ لأنه لا يصعب ذكره؛ ولأن الناس يختلفون في أسباب الجرح، فقد يجرح أحدهم بما ليس بجارح.
قِسْمَا علم الحديث الشريف:
ينقسم علم الحديث الشريف قسمَيْن[7]:
الأول: علم الحديث دراية، (وهو المعروف بـ"علم مصطلح الحديث").
الثاني: علم الحديث رواية.
ولكلٍّ من العِلْمَيْن مبادئ ينبغي معرفتها والإحاطة بها؛ ليكون الشارعُ فيهما على بصيرةٍ تامة.
مبادئ علم مصطلح الحديث:
دَرَجَ المصنفون في بداية مُؤلفاتِهم على ذكر مبادئ كل علم من العلوم التي يتحدثون عنها، وحيثُ إنَّ مصطلح الحديث يُعَدُّ فنًّا مُستَقلاًّ بذاته، شأنه كغيره من سائر الفنون، فإنَّ له مبادئ خاصَّة به، وهذه المبادئ عشرة، وقد جمعها العلامة أبو العرفان محمد بن علي الصَّبَّان[8] بقوله: "وقد نظمتُ العشرة فقلتُ:
إِنَّ مَبَادِي كُلِّ فَنٍّ عَشَرَهْ
الحَدُّ وَالْمَوْضُوعُ ثُمَّ الثَّمَرَهْ
وَنِسْبَةٌ وَفَضْلُهُ وَالْوَاضِعْ
وَالِاسْمُ الِاسْتِمْدَادُ حُكْمُ الشَّارِعْ
مَسَائِلٌ وَالْبَعْضُ بِالْبَعْضِ اكْتَفَى
وَمَنْ دَرَى الْجَمِيعَ حَازَ الشَّرَفَا".
ولذلك فإنه "يُحَدُّ علم الحديث درايةً - وهو المعروف بعلم مُصطلح الحديث - بأنَّه: علم[9] يعرف به أحوال السند والمتن[10]، وكيفية التحمُّل[11] والأداء[12]، وصفات الرجال[13]، وغير ذلك[14].
• وموضوعه: السند والمتن من حيث الصِّحَّة والحسن ونحو ذلك.
• وثَمرته: معرفة الحديث الصحيح من غيره.
• وأول من صنَّف فيه: القاضي أبو محمد الحسن بن عبدالرحمن الرَّامَهُرْمُزِي[15] - رحمه الله - وسُمِّي كتابه: "المُحَدِّث الفاصِل بين الراوي والواعِي".
• واسمه: "علم الحديث دراية"، ويُسمى "مصطلح الحديث"... [وسميت هذا الكتاب: الموجز لتيسير مصطلح الحديث].
• واستمداده: مِن تتبُّع أحوال رُواة الحديث.
• وحكمه: أنه فرض عيْن على مَنِ انفرد به، وفرض كفاية عند التعدُّد.
• ونسبته: إلى غيره من العُلُوم التباين.
• وفضله: أنه مِن أشرف العلوم؛ إذ به يعرف المقبول والمرْدود.
• ومسائله: قضاياه كقولنا: كل حديث صحيح يستدل به.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|