حديث: اشترى من يهودي طعاما ورهنه درعا من حديد
عن عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشترى من يهودي طعامًا ورهنه درعًا من حديد.
الرهن: هو المال الذي يجعل وثيقة بالدين ليستوفي من ثمنه إن تعذَّر استيفاؤه من الغريم، وهو جائز بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ [البقرة: 283].
قال الحافظ: (وإنما قيَّده بالسفر؛ لأنه مظنة، فقد الكاتب فأخرجه مخرج الغالب، فلا مفهوم له لدلالة الحديث على مشروعيته في الحضر، وهو قول الجمهور.
قوله: (ورهنه درعًا من حديد)، وفي رواية الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم الرهن والكفيل في السلف، فقال إبراهيم حدثنا الأسود عن عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعامًا إلى أجل ورهنه درعه، وفي رواية: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة، وفي حديث قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه بشعير ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالةٍ سَنِخَةٍ، ولقد سمعته يقول: ما أصبح لآل محمد صلى الله عليه وسلم إلا صاع ولا أمسى، وإنهم لتسعة أبيات، ولابن حبان: أن قيمة الطعام كانت دينارًا، وزاد أحمد من طريق في آخره فما وجد من يفتكها به حتى مات)[1].
قال الحافظ: (وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط منه جواز معاملة من أكثر ماله حرام، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته، وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًّا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في أيديهم، وجواز الشراء بالثمن المؤجل، واتخاذ الدروع والعدد، وغيرها من آلات الحرب، وأنه غير قادح في التوكل، وأن قضية آلة الحرب لا تدل على تحبيسها؛ قاله ابن المنير، وأن أكثر قوت ذلك العصر الشعير، قاله الداودي، وأن القول قول المرتهن في قيمة المرهون مع يمينه؛ حكاه ابن التيِّن، وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع والزهد في الدنيا والتقلل منها، مع قدرته عليها، والكرم الذي أفضى به إلى عدم الادخار حتى احتاج إلى رهن درعه، والصبر على ضيق العيش والقناعة باليسير، وفضيلة لأزواجه لصبرهنَّ معه على ذلك، وفيه غير ذلك، قال العلماء الحكمة في عدوله صلى الله عليه وسلم عن معاملة مياسير الصحابة إلى معاملة اليهود؛ إما لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ ذاك طعام فاضل عن حاجة غيرهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا، فلم يرد التضييق عليهم، فإنه لا يبعد أن يكون فيهم إذ ذاك مَن يقدِر على ذلك وأكثر منه، فلعله لم يُطلعهم على ذلك، وإنما اطلع عليه من لم يكن موسرًا به ممن نقل ذلك، والله أعلم.
وقال أيضًا: وفي الحديث الرد على من قال أن الرهن في السلم لا يجوز)[2]؛ انتهى.
قال شيخ الإسلام: ويجوز رهن العبد المسلم من كافر بشرط كونه في يد مسلم، واختاره طائفة من أصحابنا، ويجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على دين غيره، كما يجوز أن يضمنه وأولى، وهو نظير إعارته للمرهن، وإذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين، فالقول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن، وهو مذهب مالك، ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع الدين، وهو مذهب أحمد وغيره وإذا لم يكن للمديون وفاء غير الرهن وجَب على رب الدين إمهاله حتى يبيعه، فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه من الحبس، أو كان في بيعه وهو في الحبس ضرر عليه، وجب إخراجه، ويضمن عليه أو يمشي معه هو أو وكيله، وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد قبل القبض؛ لأنه عقد يلزم بالقبض، فلزم قبله كالبيع، وهو رواية عن أحمد؛ لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1]؛ قال الزجاج: أي العقود التي عقد الله عليكم وعقدتم بعضكم على بعض[3]، والله أعلم.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|