شرح حديث: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولم تزل هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» (رواه البخاري ومسلم).
الدين الإسلامي مجموعة أحكام وضعها الله لعباده، مشتملة على جميع ما تصلح به حياتهم الدنيوية والأخروية، صالحة لكل زمان ومكان، على لسان النبي العالمي العربي سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم، المؤيد من ربه العلي الكبير بالمعجزات الباهرات والآيات البينات.
شرع سبحانه وتعالى هذا الدين بكتاب أنزله على رسوله الكريم، وأمره بتبليغ الرسالة فبلغها خير تبليغ، وأدى أمانة الله تعالى كما حمل، لذلك صار كلامه مفسراً لكلام الله، ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7] فأخبر هذا النبي الكريم أمته أن علامة إرادة الله تعالى الخير لعباده أن يتفقهوا في الدين، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يهب عبده من الفطنة والذكاء ما يوصله إلى معرفة حقيقة هذا الدين وأحقيته، وإلى الاطلاع على ما فيه من الأسرار والحكم البالغة، ويرشده جل وعز إلى العلم بأن هذا الدين هو الوسيلة العظمى إلى نيل السعادة الكاملة في الدارين فمن كان متفقهاً في الإسلام هذا التفقه، فهو ممن أراد الله به خيراً كثيراً، ومن لم يكن كذلك فهو من الذين ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها مستكبرين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ثم أرشدنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما أنا قاسم) أوزع ما أمرني الله به من أحكام هذا الدين على جميع أفراد هذه الأمة، وأوصلها إليهم مع التسوية بينهم في تبليغها لهم لا أخص فريقاً دون فريق، ولا تأثير لي في تعيين مقدار نصيب كل واحد منهم! بل إنما ذلك التعيين لله وحده فهو الذي يعطي من يشاء ما شاء؛ وإنما أنا سفير بين الله وبين عباده.
هذا هو الصراط المستقيم الذي سار عليه الصحابة رضي الله عنهم ثم اقتدى بهم في ذلك خلفهم الصالحون من التابعين وتابعيهم، ثم جاء من بعدهم الأئمة المجتهدون فاهتدوا بهديهم واستنوا بسنتهم، إمامهم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي جمع كل صلاح الدين والدنيا، ولم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها وفصلها تفصيلاً (ما فرطنا في الكتاب من شيء). وكذلك كانت قدوتهم الحسنة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر لهم كتاب الله تعالى، وترشدهم كيف يتعلمون ويعلمون.
﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44]
لعل الذين اجترؤوا على الإسلام فاتهموه عمداً أو جهلاً بأنه كغيره من الأديان إن صلح فإنما يصلح للأرواح، أما الحياة الدنيوية الزمنية، فإنه لا صلة بينه وبينها، لأنه خلو مما يصلحها ويقومها، وإن ما يدعيه له أنصاره فإنما هو أشياء جافة جمدوا عليها، على أنها وإن ناسبت كما زعموها له فإنما هي أمور قدم عهدها كانت لزمن سالف، وأمة قد خلت، فلو أنصف أولئك الزاعمون لكان لهم مما شرحناه من حقيقة هذا الدين تبياناً، وأنهم في اتهامهم له بذلك كانوا مغرضين أو حائدين عن صراط الحق: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
ولقد اعترف كثيرون من المنصفين من علماء الغرب خاصة أن الإسلام هو دين الله الوحيد الذي يؤمن للبشر السعادة في الحياتين وأجمع العقلاء من كل أمة على أن الإسلام (دين المساواة والحرية والمدنية والرقي) صالح لكل عصر، موافق لكل أمة، ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85].
ثم أوضح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العاقبة الحسنى لمن اعتصم بهذا الدين الحنيف وأطاعه، والعاقبة السيئة لمن أعرض عنه وعصاه؛ فأخبر أن هذه الأمة المحمدية ستستمر قائمة على أمر الله سائرة على تعاليم دينه، ممتثلة أوامره، مجتنبة نواهيه، منفذة أحكامه، وحينئذ يكافئها ذو الفضل العظيم في الدنيا، بأن يحفظها ممن يخالف دينها، فيرد عنها كيد أعدائها، ويدفع شرهم ولا يسلطهم عليها، ولن يجعل الله لهم عليها سبيلاً، بل يجعلها مهابة ملء قلوبهم، وأعينهم، ويجعل الفوز والنصر العزيز، ونفاذ الكلمة، وعزة السلطان، وقوة الجانب لها عليهم.
أما إذا نبذوه وراءهم ظهرياً، وعصوا أوامره، ارتكبوا محارمه فإذ ذاك يأتي أمر الله، وهو حكمه على من يعرضون عن دينه، ويعصون أوامره، وينتهكون حرماته، بالذلة والصغار، والفقر والحاجة، وتسليط عدوهم عليهم، فيستعمرهم ويستعبدهم! ذلك جزاءً وفاقاً. ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]. ﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [القصص: 59]. فلينظر المسلمون بعد ذلك، ليعلموا من أي شطري هذا الحديث المبشر المنذر - (هم) - فإن كانوا من شطره الأول قائمين على أمر الله شكروه سبحانه أن هداهم للإيمان، ووفقهم لما يرضيه عنهم ويرضيهم عنه، وسألوه زيادة من فضله. ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7].
وإن كانوا من شطره الثاني: الذين نسوا الله فنسيهم، واستهدفوا لأمر الله يأتيهم بغتة وهم في خوضهم يلعبون.
فخير لهم أن يتقوا الله وينظروا إلى ما قدموا من الأعمال فثمة يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فيجزون بهذه الأعمال: إن خيراً فخير.. ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 16].
المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثالثة، العدد الأول، 1356هـ - 1937م
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|