الجار قبل الدار
خطبة الجمعة القادمة بتاريخ: 8 جمادى الآخرة 1444هـ – الموافق 2 ديسمبر 2022م.
تحت عنوان : الجار حقوق وعقوق (حق الزمالة والجوار) للشيخ ثروت سويف
اقرأ في هذه الخطبة
اولا : تعظيم حق الجار بأمر الملك الجبار ووصية النبي المختار
ثانيا : الجار قبل الدار ثالثا : إياكم وأذية الجار رابعا : من حقوق الزمالة والصداقة
الخطبة الاولي
الحمد لله الذي أمرنا بالبر والصلة ونهانا عن العقوق، وجعل حق المسلم على المسلم من آكد الحقوق، وجعل للجار حقًّا على جاره وإن كان من أهل الكفر والفسوق، وبين بالقران والسنة ما له وما عليه من حقوق
واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه جعل حفظ الْجَوار نجاة من النَّار وَجَوازا للصِّرَاط إِلَى دَار الْقَرار فمن حفظ حق الْجَار فقد عمل بِالسنةِ وَالْكتاب وأطاع الْملك الْوَهَّاب وأسخط الشَّيْطَان اللعين الْكذَّاب وَمَا من جَار يلقى جَاره الْمُسلم فَيسلم عَلَيْهِ إِلَّا غفر الله لجاره وَلَو كَانَ لَهُ ألف جَار وان من حفظ الْجِيرَان فقد أطَاع الرَّحْمَن وأسخط الشَّيْطَان وَعمل بِالسنةِ وَالْقُرْآن
واشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق المصدوق اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الناطق بأفضل منطوق، بين ما للجيران من حقوق وامرنا بحسن الجوار ونهانا عن العقوق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وصحبه المؤدين للحقوق، وعلى التابعين لهم بإحسان من سابق ومسبوق
اما بعد
فقد كان العرب في الجاهلية والإسلام يحمون الذمار، ويتفاخرون بحسن الجوار وقالوا علي قدر الجار يكون ثمن الدار وان الإسلام ليأمرنا بحسن المجاورة ولو مع الكفار وشر الناس من تركه الناس اتقاء شره. وتباعد عنه من يعرفه تجنبًا لضره. وأخبث الجيران من يتتبع العثرات. ويتطلع إلى العورات في سره وجهره، وليس بمأمون على دين ولا نفس ولا أهل ولا مال.
ولله در القائل
يَا حَافظ الْجَار ترجو أَن تنَال بِهِ ... عَفْو الْإِلَه وعفو الله مذخور
الْجَار يشفع للجيران كلهم ... يَوْم الْحساب وذنب الْجَار مغْفُور
اولا : تعظيم حق الجار بأمر الملك الجبار ووصية النبي المختار
يقول ربنا جل وعلا : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال : {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يَعْنِي الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الَّذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قُرَابَةٌ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمةَ، ومُجَاهد، وغيرهم
والجيران كما يقول العلماء ثلاثة، فالجار الأول له ثلاثة حقوق، وهو الجار المسلم ذو الرحم، الذي له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة، أما الجار الثاني فهو الذي له حقان: حق الإسلام وحق الجيرة، وأما النوع الثالث فهو الجار الكافر، فهذا له حق واحد وهو حق الجوار.
واسم الجار كما يقول ابن حجر يشمل المسلم والكافر والعابد والفاسق والصديق والعدو والبلدي والغريب والنافع والضار والقريب والأجنبي والأقرب داراً والأبعد.
وأما حد الجار فعن علي رضي الله عنه من سمع النداء فهو جار، وقيل من صلى معك الصبح في المسجد فهو جار.
فعليكم بحسن الجوار فإن السباع وعتاق الطير في الهواء تحامى على من يجاورها.
روي الامام َالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟ فَقُلْت أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا. فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلَى جَارِك تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرُ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ»
وقيل: الكريم يرعى حق اللحظة ويتعهد حرمة اللفظة. وقال جعفر بن محمد: حسن الجوار عمارة الديار
عباد الله: ان حق الجار على جاره مؤكد بالآيات والأحاديث، وما زال جبريل يوصي محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجار حتى ظن أنه سيشركه في المواريث، روى الامام احمد بإسناد صحيح، رجاله ثقات عنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَهْلِي أُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا بِهِ قَائِمٌ وَإِذَا رَجُلٌ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ حَاجَةً فَجَلَسْتُ، فَوَاَللَّهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقُمْتُ إلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ قَامَ بِكَ هَذَا الرَّجُلُ حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَك مِنْ طُولِ الْقِيَامِ. قَالَ أَتَدْرِي مَنْ هَذَا؟ قُلْت لَا قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، أَمَا إنَّكَ لَوْ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ لَرَدَّ عَلَيْك السَّلَامَ »
واعلم انه لا يسيء الجوار ويؤذي الجار إلا لئيم وخبيث، فاسد في الأرض يعيث روي الامام البخاري عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ » .وفي رواية المسند (قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ: " شَرُّهُ " وفي " رواية غشمه وظلمه"
أتدرون ما حقوق الجوار لقد لخصها نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثه الذي رواه البيهقي في الشعب والطبراني في مسند الشاميين عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ جَارِهِ مَخَافَةً عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ، أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ الْجَارِ؟ إِنِ اسْتَعَانَكَ أَعَنْتُهُ، وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِنِ افْتَقَرَ عُدْتَ عَلَيْهِ، وَإِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ شَهِدْتَ جَنَازَتَهُ، وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ، وَلَا تَسْتَطِيلَ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ، فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَإِذَا شَرَيْتَ فَاكِهَةً فَاهْدِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرًّا، وَلَا يَخْرُجْ بِهَا وَلَدُكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ، وَلَا تُؤْذِهِ بِقِيثَارِ قَدْرَكَ إِلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا» ( البيهقى فى شعب الإيمان)
والجامع لإكرام الجار كما بين نبينا المختار في حديثه هو أن ترجو له الخير وأن تقدم له ما استطعت من معروف وأن تمنع عنه الأذى أياً كان نوعه، فمن جملة حق الجار أن تبدأه بالسلام وتعوده في مرضه وتعزيه في مصيبته وتخدم أهله بصنع الطعام فترة العزاء، وتهنئه في أفراحه وتصفح عن زلاته، وأن لا تتطلع من السطح على عوراته، وأن لا تصب الماء أو يضع القاذورات أمام داره، وأن تستر ما ينكشف له من عيوبه وأخطائه، وأن لا تغفل عن ملاحظة داره حال سفره وغيابه، وعليك بغض البصر عن حريمه والتلطف مع أولاده في الكلام مع إرشادهم إلى أمور دينهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
وفي المثل السائر: " من فاته نفع إخوانه، فلا يفوتنه نفع جيرانه "، وعند َالطَّبَرَانِيُّ «عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الْجَارِ عَلَى جَارِهِ؟ قَالَ: إنْ مَرِضَ عُدْتَهُ، وَإِنْ مَاتَ شَيَّعْتَهُ، وَإِنْ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ، وَإِنْ أَعْوَرَ سَتَرْتَهُ
عار عليك أيها المسلم أن تبيت شبعانًا، وجارك طاو جائع، وعار عليك أن تلبس الجديد وتبخل بما أبليت من ثيابك على عراة الجيران، وعار عليك أن تتمتع بالطيبات من مشموم ومطعوم وجيرانك يشتهون العظام وكسر الطعام وأنت تعلم قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا لا تحقرن جارة لجارتهما ولو فرسن شاة» ، وأنه قال لأبي ذر رضي الله عنه: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعهد جيرانك» .
فرب جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول يا رب إن هذا قد أغلق بابه دوني ومنعني معروفه، ورآني على الشر فلم ينهني عنه «وقال رجل يا رسول الله إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها، قال: " هي في النار "، قال: يا رسول الله فإن فلانة تذكر من قلة صلاتها وصيامها وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها قال: " هي في الجنة» .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مِنَ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضِّيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ» أخرجه ابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان
ثانيا : الجار قبل الدار
فمن حق الجار على جاره أن يكون له في الشدائد عونا، وفي الرخاء أخاً يَأْسى لما يؤذيه، ويفرح لما يسره ويرضيه، ويأخذ بيده إذا أظلمت في وجهه الحياة، ويرشده إذا ضل أو أخطأ الطريق، ويهيئه إذا أصابه خير، ويبصره إذا ظلم، ويدفع عنه الأذى
وقيل: الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق.
اطلب لنفسك جيراناً تجاورهم ……لا تصلح الدار حتى يصلح الجار
فاختيار الجار يكون قبل شراء الدار.
وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة [التحريم:11]. اختارت الجار قبل الدار.
يقولون قبل الدار جار مجاور …وقبل الطريق النهج أنس رفيق
إن الجار الصالح أخو لك لم تلده أمك، يذب عن عرضك، ويعرف معروفك، ويكتم عيوبك، ويفرح إذا فرحت، ويتألم إذا حزنت.
ان من الحماقة وضعف الرأي ترافع الناس إلى الحكام فيما يقع عادة بين الجيران، من خصومات النساء ومشاجرات الصبيان، ومما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهيه عن إطالة البنيان إذا كان في ذلك شيء من الأذى كسد الهواء والإشراف على من يدانيك في المكان. ولقد كان يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول»
وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ "، قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: " غَشْمُهُ وَظُلْمُهُ.
وربما اضطر إِلَى بيع منزله من أجل جار السوء، كما ذكر بعض من ابتلى بجار سوء اضطره إِلَى بيع ملكه قال فِي ذلك:
يَلُومُونَنِي إِنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي ... وَلَمْ يَعْلَمُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغَّصُ
فَقُلْتُ لَهُمْ كُفُّوا الْمَلامَ فَإِنَّمَا ... بِجِيرَانِهَا تَغْلُوا الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
وقد كان السلف الصالح والكرامُ من الناس لا يؤثرون بالجار الصالح مالاً ولا عرضًا من الدنيا، فهذا إبراهيم بن حذيفة باع داره فلما أراد المشتري أن يشهد عليه قال: لست أشهد عليَّ ولا أسلمها حتى يشتروا مني جوار سعيد بن العاص وتزايدوا فِي الثمن قالوا: وهل يُشترى جوارٌ قط؟ قال: ردّوا عليّ داري، وخذوا مالكم، لا أدع جوار رجل إن قعدتُ سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبتُ حفظني، وإن شهدت قرّبني، وإن سألتُه قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرَّج عني، فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث إليه بمائة ألف درهم.
فالجارُ الصالح له منزلةٌ عند العقلاء ومن يقدُرون المكارم قدرها، فهم يحرصون عليه، ولا يفرّطون في مجاورته إن أراد الانتقال عنهم، بخلاف جار السوء ـ أعاذنا الله وإياكم منه ـ
وروى المدائني أنه باع جار لفيروز داره بأربعة آلاف درهم فجيء بها فقال البائع: هذا ثمن داري فأين ثمن جاري قال: ولجارك ثمن قال: لا أنقصه والله عن أربعة آلاف درهم.
فبلغ ذلك الفيروز فأرسل إليه بثمانية آلاف درهم وقال: هذا ثمن دارك وجارك وألزم دارك لا تبعها.
وقيل ابن المقفع كَانَ بجوار داره دار صغيرة وكان يرغب فِي شرائها ليضيفها إِلَى داره وكان جاره يمتنع من بيعها ثم ركبه دين فاضطر إِلَى بيعها وعرضها على جاره بن المقفع فقال: مَا لي بها حاجة. فقيل له: ألست طلبت مِنْه شرائها. فقال: لو اشتريتها الآن مَا قمت بحرمة الجوار لأنه الآن يريد بيعها من الفقر ثم دفع إِلَى جاره ثمن الدار وقال: ابق بدارك وأوف دينك لله دره.
فحفظ الْجَار قربَة ووسيلة ودرجة عِنْد الله وفضيلة وإِن العَبْد أَو الْأمة يسْأَل عَن حفظه فَمن حفظ جَاره جَازَ الصِّرَاط وَنَجَا من الْعَذَاب الْأَلِيم وَصَارَ إِلَى جنَّة الْخلد وَدَار النَّعيم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال: «اذهب فاصبر» . فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: «اذهب فاطرح متاعك فِي الطريق» . ففعل فجعل الناس يمرونه ويسألونه فيخبرهم خبر جاره، فجعلوا يلعنونه، فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه، فجاء إليه جاره، فقال: ارجع فإنك لن ترى مني شيئًا تكرهه. رواه أبو داود واللفظ له وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم
عباد الله لقد كَانَ سلفنا فِي محبة الجيران بعضهم بعضًا آية من الآيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الإنصاف غاية الغايات لذلك كَانَوا فِي محبة الخير لبعضهم على أرقى مَا يتصور فِي الدرجات.
ثالثا : اياكم واذية الجيران فانها من الكبائر
اعلموا ان اذية الجار محرمة فقد حتى عدها الامام الذهبي من الكبائر أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ» . وَمُسْلِمٌ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ» ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَالله لَا يُؤمن وَالله لَا يُؤمن قيل من يَا رَسُول الله قَالَ من لَا يَأْمَن جَاره بوائقه أَي غوائله وشروره وَفِي رِوَايَة لَا يدْخل الْجنَّة من لَا يُؤمن جَاره بوائقه. بوائقه أَي غوائله وشروره وَفِي رِوَايَة لَا يدْخل الْجنَّة من لَا يُؤمن جَاره بوائقه وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أعظم الذَّنب عِنْد الله فَذكر ثَلَاث خلال أَن تجْعَل لله نداً وَهُوَ خلقك وَأَن تقتل ولدك خشيَة أَن يطعم مَعَك وَأَن تَزني بحليلة جَارك
والجار الذِمِّيٌّ او غير المسلم فَيَتَعَيَّنُ صَوْنُهُ وعدم إيذَائِهِ، وَيَنْبَغِي الْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْتِجُ خَيْرًا كَثِيرًا
وَكَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَهُ جَار يَهُودِيّ فَكَانَ إِذا ذبح الشَّاة يَقُول احملوا إِلَى جارنا الْيَهُودِيّ مِنْهَا
وَرُوِيَ أَن الْجَار الْفَقِير يتَعَلَّق بالجار الْغَنِيّ يَوْم الْقِيَامَة وَيَقُول يَا رب سل هَذَا لم مَنَعَنِي معروفه وأغلق عني بَابه وَيَنْبَغِي للْجَار أَن يحمل أَذَى الْجَار فَهُوَ من جملَة الْإِحْسَان إِلَيْهِ
وروى الحاكم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ. قَالَ: «كُنَّ مُحْسِنًا» قَالَ: كَيْفَ أَعْلَمُ أَنِّي مُحْسِنٌ؟ قَالَ: " سَلْ جِيرَانَكَ، فَإِنْ قَالُوا: إِنَّكَ مُحْسِنٌ فَأَنْتَ مُحْسِنٌ، وَإِنَّ قَالُوا: إِنَّكَ مُسِيءٌ فَأَنْتَ مُسِيءٌ «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»
عباد الله هذا غيض من فيض من احاديث سيد المرسلين للتحذير من اذي الجار وان الله تعالى يحب جارًا صبر على أذية جاره حتى يكفيه الله إياه بتحول أو موت.
رابعا : حقوق الزمالة
اخي المسلم تخير للزمالة والصداقة من يعينك على مطلبك، ويقربك إلى ربك ويوافقك على شريف غرضك ومقصدك وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيه واجعل له من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيه من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.
فيما رواه أبي داوود والترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا تصاحب إلا مؤمنا و لا يأكل طعامك إلا تقي.
من أهم صور الجوار جوار الزمالة في العمل، سواء في الدراسة وطلب العلم، أم في العمل العام أو الخاص أيًّا كان نوع هذا العمل، إداريًّا، أم مهنيًّا، أم حِرَفِيًّا، أم قياديًّا، أم مجتمعيًّا أو تطوعيًّا، فهي داخلة في معنى قوله تعالى: {والصَّاحِب بِالجَنْبِ}، والزملاءُ في العمل أصحاب وجيران، ينبغي أن تسود بينهم روح التآلف والتكامل، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) فيما روى الامام احمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِي، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ "
وأولى الناس بالتقريب هم أهل الصلاح والعلم، ولذلك فقد كانت بطانة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القراء، فقد أخرج البخاري في صحيحه أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شبانا.
وكلما كانوا ـ أعني البطانة ـ من أهل العلم والتقوى كنت ـ يا أخي المسلم ـ أبعد عن الزلل بإذن الله تعالى، وقد توّج البُخاري رحمه الله أحد أبواب الصحيح تحت كتاب الاعتصام بقوله: "وكانت الأئمة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيرون الأمناء من أهل العلم".
ان من أهم حقوق الزمالة التعاون فيما بين الزملاء، ونقل الخبرات، والتناصح، وتبادل المعلومات بما يحقق صالح العمل وإتقانه على أكمل وجه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ " البيهقي في الشعب
ويقول (صلى الله عليه وسلم): (وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ) البخارى، و عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ» قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: «لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» مسلم
من أهم حقوق الزمالة كف الأذى، والبعد عن أسباب التشاحن، والتباغض، والتحاقد، والغيبة والنميمة، والوقيعة بين الزملاء، فإن الأرزاق مقسومة وفق حكمة أرادها رب العالمين، حيث يقول نبينا روي الامام احمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»
روي الامام الطبراني في معجمه عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: «نَفَثَ رُوحُ الْقُدُسِ فِي رَوْعِي أَنَّ نفْسًا لَنْ تَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا، وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا، فَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمِ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»
عباد الله : ان من أهم حقوق الزمالة تفريج الكروب، والتكافل عند المهمات والملمات، بما يحقق معنى الجسد الواحد الذي أكَّد عليه الإسلام، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ مِثْلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)، ويقول (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ نَفَّس عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبةً منْ كُرب الدُّنْيا نفَّس اللَّه عنْه كُرْبةً منْ كُرَب يومِ الْقِيامَةِ، ومَنْ يسَّرَ عَلَى مُعْسرٍ يسَّرَ اللَّه عليْهِ في الدُّنْيَا والآخِرةِ، ومَنْ سَتَر مُسْلِمًا سَترهُ اللَّه فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ).
جعلني الله وإياكم من خيار خلقه، وبارك لي ولكم في الطيبات من رزقه، وأجارني وإياكم من أذية الجار والتهاون بحقه، آمين
اللهم اختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إِلَى رحمتك مصيرنا ومآلنا واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ومن بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا إلهنا ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
جمع وترتيب _ ثروت سويف _ امام وخطيب ومدرس
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|