خطبة الجمعة القادمة بعنوان : ( وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ ) التحذير من الغفلة وا
اقرأ في هذه الخطبة
اولا : حديث القران الكريم عن الغفلة وحقيقها واسبابها ثانيا : الغفلة عن ذكر الله عز وجل
ثالثا : الغفلة عن الموت و عن الآخرة رابعا : من طرق الشفاء من الغفلة
الخطبة الاولي
الحمد لله رب العالمين يا رب يامن لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون ولا تغيره الحوادث ولا يخشي الدوائر يامن لا توارى منه سماء سماءا ولا ارض ارضا ولا جبل ما في وعره ولا بحر ما في قعره كل شيء منكشف بإحاطته وعلمه سبحانك يا من يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطرات الامطار وعدد ورق الاشجار وعدد حبات الرمال وعدد ما اظلم عليه الليل واشرق عليه النهار
واشهد ان لا اله الا الله وحده الكون بما حواه ملكه فلا توكل الا عليه ولا حياة الا اليه ولا موت الا بقدرته سبحانه لا ينسي من يذكره غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب
واشهد ان سيدنا محمدا عبد الله ورسوله دحض الله به حجج المبطلين ورد به كيد الكائدين وايد به الاسلام والدين فلمع منهاجه وثقب سراجه ونمت حكمته فهو الهادي للامة الكاشف للغمه الناطق بالحكمة والمبعوث بالرحمة رفع اعلام الصدق واضاء مناره وهدم حصون الشرك ومحي اثاره اللهم صل وسلم عليه وعلي اله واصحابه واحبابه الذين حملوا الينا الدين وحملوا الينا القران الكريم وسنة النبي واخباره وسلم تسليما كثيرا
اما بعد
فإِنَّ الغَفْلَةَ عَنْ اللهِ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ تَعَالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} فَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَأَلْهَتْهُ الدُّنْيَا عَنْ العَمَلِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ أنْسَاهُ العَمَلَ لِمَصَالِحَ نَفْسِهِ فَلا يَسْعَى لَهَا بِمَا فِيهِ نَفْعُهَا وقال تعالي (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (1) الانبياء
اولا : حديث القران الكريم عن الغفلة وحقيقها واسبابها
الغفلة: هى ترك الشّيء سهوا وغيبة الشّيء عن بال الإنسان، وعدم تذكّره له، وقد استعمل فيمن تركه إهمالا، وإعراضا، كما في قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]؟!
وبعد الغفلة يأتي الموت بغتة روي مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر قال كان رسول الله يقول ( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحوِّل عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك )
والفُجَاءَةُ: أي الْبَغْتَةُ0
قال لقمان لابنه وهو يعظه: " يا بني، لا تؤخر التوبة، فإن الموت يأتي بغتة ".
فإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وبادر الفرصة، واحذر البغتة، وإياك والتأجيل والتردد، وإذا عزمت فتوكل على الله
لقد تحدث القران الكريم عن الغفلة والغافلين وذكر الغفلة صريحة في اكثر من 35 موضعا وغير صريحة في مواضع عدة فتارة تجد القران الكريم يتحدث عن الغفلة في سياق التعلل بها لدفع اللائمة قال تعالي (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) الانعام
وتارة في سياق سبب العقوبة: ( أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) الاعراف
وتأتي الغفلة في الكتاب العزيز في سياق التحذير منها أو ممن اتصف بها: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) الاعراف
ويحدثنا ربنا عن الغفلة والغافلين في سياق وصم اشخاص او قوم بها: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) هود
او في سياق تمنيها أو انتهاز فرصة حدوثها: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً (102) النساء
او في سياق النهي عن ظنها في حق الله : وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) ابراهيم
فانتبه يا غافلا قبل الموت فجأة وقبل أن توقف أمام الله للعرض، فتقول: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
يقول الامام علي كرم الله وجهه
يا من بدنياه اشتغل…وغره طول الأمل
الموت يأتِي بغتة…والقبر صندوق العمل
فيا غافلا تنبه فان الدنيا غرورة تغرّ الجّاهل، ولا تسرّ العاقل، ودارٌ لا يدخلها الطفل إلّا وهو باكٍ، ولا يخرج منها الكهل إلّا وهو شاكٍ، قد عصفت بالشّرور سواقيها، ومَنْ أَذْنَبَ في جهنم وجب أن يُعَذَّبَ فيها، ليس بها لذةٌ إلّا ممزوجةً بألم، ولا دسمٌ إلّا مخلوطاً بسم، ولا ضاحكٌ إلّا وهو باكٍ كالغمامة، ولا شادٍ إلّا وهو نائحٌ كالحمامة. فلكٌ في هلك، سيّان بها من بالبقاع، ومن على الشّراع. وخطٌ في ماءٍ لا ينقسم، حتّى يلتئم، وأثرٌ في بيداء لا يرتسم، حتّى يرتطم.
بنى هارون الرشيد قصر فلما وقف يسمع مدح الشعراء فيه مر مسكين فقال يا هارون
فهم الجند ان ياخذوه هكذا ,,,,,, ينادى هكذا باسمه....باسمه بغير امير المؤمنين
فقال هارون دعوه ...........ثم قال للرجل ماذا تريد؟
قال هل غضبت؟ انى انادى من هو خير منك باسمه فلا يغضب انى انادى فى اى وقت واقل .......... يالله باسمه يارحمن
فقال له هارون ادنو منى.....فاقترب الرجل ........فقال له هارون ....عظنى
فقال الرجل لودامت الخلافة لغيرك ما وصلت اليك
قال له ذدنى..........قال انظر هذه قصورهم وانظر الى الجهة الاخرى .... ,قبورهم
كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول إذا قعد: ((إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن زرع خيراً يوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شراً يوشك أن يحصد ندامة، ولكن زارع مثلما زرع، ولا يسبق بطئ بخطوة، ولا يدرك حريص ما لم يقدر له، فمن أعطي خيراً فالله أعطاه، ومن وقي شراً فالله وقاه، المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة)).
ورحم الله الامام الشافعي لم يترك بابا من ابواب الحكمة والتقوى إلا وطرقه ... ووثقه في كلمات خالدة تلجم نفوسنا كلما افلتت من زمامها حيث قال
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من صبي يرتجى طول عمره *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري ويقول اخر
وكم من عروس زينوها لزوجها *** وقد قبضت أرواحُهم ليلة القدرِ
وكم من صغارٍ يُرتجى طول عمرهم *** وقد أُدخلت أجسادُهم ظلمة القبرِ
مر الحسن البصري على أقوام يضحكون فقال: هل مررتم على الصراط؟ قالوا: لا، قال: أتدرون إلى الجنة يؤخذ بكم أم إلى النار؟ قالوا: لا، قال: فعلامَ الضحك؟! لا على الصراط مررتم، ولا إلى الجنة تؤخذون، ولا من النار تنجون فكيف تضحكون؟! فاتقوا الله عباد الله! واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، وأدوا الحقوق، وتحللوا من بعضكم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، فأخلصوا أعمالكم لله، وحافظوا على الصلوات، وانتهوا عن الفواحش والمنكرات، وتوبوا إلى الله توبة نصوحاً.
روي الامام أحمد في مسنده والبيهقي في الشُعب من حديث عقبة بن عامر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله جل وعلا يعطي العبد ما يُحِب وهو مقيم على معصية الله فاعلم بأنه استدراج له من الله عز وجل، وقرأ النبي قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45]).
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ)، أي: لما تغافلوا عن الأوامر والنواهي والحدود وكان المفترض أن تكون النتيجة: خسفنا بهم الأرض أنزلنا عليهم الريح، أو أنزلنا عليهم العذاب والخسف والصيحة، ولكن: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
قال تعالي ( وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) الاعراف
عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله- عزّ وجلّ- أيّها النّاس، فسلوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل» رواه أحمد
وعن يسيرة- رضي الله عنها- وكانت من المهاجرات؛ قالت: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «عليكنّ بالتّسبيح والتّهليل والتّقديس، واعقدن بالأنامل، فإنهنّ مسؤولات مستنطقات، ولا تغفلن، فتنسين الرّحمة»
يا عبد الله اغتنم مواسم الأرباح فقد فَاتَت أسواقها وداموا مَا دَامَت أَبْوَاب التَّوْبَة مفتحة فقد حَان إغلاقها وانتهزوا فرْصَة الْيَسَار فِي دَار الْقَرار ففد آن من أقمار الْأَعْمَار محاقها وَبَادرُوا هجوم الْآجَال فشمس الْمنية قد أزف إشراقها وَأَعدُّوا ليَوْم الْحساب صَوَاب الْجَواب فَإِنَّمَا يُحَاسب الخليقة خلآقها واغوثاه بِاللَّه من ثقل هَذَا الرماد مَا أخوفنا أَن تستمر غفلتنا إِلَى يَوْم التناد
من أعظم الْأَسْبَاب فِي توليد الْغَفْلَة امور منها
امتلاء الْبُطُون وَمعاشرة الباطلين ودواء ذلك فَعَلَيْك بِالصيام وَالْعُزْلَة عن رفاق السوء
ومن أسباب الغفلة طول الأمل و الركون الي الدنيا
إن طول الامل من أسباب الغفلة قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل].
يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى: اعلم أن الإنسان ما دام يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجيه الشيطان بالتوبة في آخر عمره، فإذا تيقن الموت ويئس من الحياة أفاق من سكرته في شهوات الدنيا؛ فندم على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب وليعمل صالحاً فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه مع سكرات الموت حسرات الفوت.
إذا هبت رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون
قال يحيى بن معاذ الرازي: الدنيا خمر الشيطان من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموت نادماً مع الخاسرين.
لذا كان واجباً على كل عاقل أن يجعل من دنياه، أن يجعل من ماله، أن يجعل من قوته، أن يجعل من جاهه، أن يجعل من موقعه، أن يجعل من دنياه أبواباً وسبلاً تعينه على طاعة الله.
قد حذر صلى الله عليه وسلم من الدنيا فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) رواه الإمام أحمد ومسلم.
ثانيا : الغفلة عن ذكر الله عز وجل
إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أمر بذكره في القرآن الكريم، وحثَّ عليه ورغّب فيه في آيٍ كثيرةٍ منه، حذّر أيضا من الوقوع في ضدّه وهو الغفلة، إذ لا يتمُّ الذِّكرُ لله حقيقةً إلاّ بالتخلُّص من الغفلة والبعد عنها، وقد جمع الله بين هذين الأمرين في آية واحدة من القرآن ـ أعني الأمر بالذِّكر والنهي عن الغفلة ـ وذلك في قوله تعالى من آخر سورة الأعراف: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مِنَ الغَافِلِينَ}
والغفلةُ داءٌ خطير إذا اعترى الإنسان وتمكّن منه لم يشتغل بطاعة الله وذكره وعبادته، بل يشتغل بالأمور الملهية المبعدة عن ذكر الله، وإن عمل أعمالاً من الطّاعة والعبادة فإنّها تأتي منه على حال سيِّئة ووضع غير حسن، فتكون أعماله عاريةً من الخشوع والخضوع والإنابة والطُمأنينة والخشية والصّدق والإخلاص.
يقول تعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً "البخارى واللفظ له وأخرجه مسلم
إنّ مَثَل الغافل عن ذكر الله مثَلُ الميِّت، وقد تقدّم معنا أنّ الذِّكر هو حياةً القلوب حقيقةً، فلا حياة لها بدونه، وحاجتها إليه أعظم من حاجة السّمك إلى الماء، فالقلب الذَّاكر هو القلب الحيّ، والقلب الغافل هو القلب الميِّت. وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَل الذي يذكر ربّه والذي لا يذكره مَثَلُ الحيِّ والميِّت". ولفظ مسلم: " مَثَل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مَثَلُ الحيِّ والميِّت"4.
ففي هذا التمثيل كما يقول الشوكاني رحمه الله: "منقبةٌ للذَّاكر جليلةٌ، وفضيلة له نبيلة، وأنّه بما يقع منه من ذكر الله عز وجل في حياةٍ ذاتيةٍ وروحيّةٍ لما يغشاه من الأنوار، ولما يصل إليه من الأجور، كما أنّ التارك للذِّكر وإن كان في حياةٍ ذاتيةٍ فليس لها اعتبارٌ بل هو شبيه بالأموات"
ولهذا قيل:
فنسيان ذكر الله موت قلوبهم ... وأجسامهم قبل القبور قبورُ
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... وليس لهم حتى النشور نشورُ
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)، أي: كأنهم كانوا مجتمعين على جيفة حمار منتنة، ويكون عليهم ذلك المجلس حسرة يوم القيامة.
ثالثا : الغفلة عن الموت و عن الآخرة
عباد الله ان الغفلة تصد عن الحق، وتصد عن اتباع المواعظ، وتصد عن استماع النصيحة، قال جل جلاله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].
فماذا أعددت للموت وسكراته؟ وماذا أعددت للقبر وظلماته؟
انظر إلى هذه السنوات المعدودة، وقارنها بما بعدها من سفر طويل، يبدأ بخروج الروح؛ وهذه القيامة الصغرى التي ذكرها ربنا تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]
الموت حق لا يمتري فيه أحد، ولكن كما قال علي بن أبي طالب قال: (الموت يقينٌ لا شك فيه، وشكٌ لا يقين فيه، قالوا: كيف يا أبا الحسن؟ قال: يقينٌ لا شك فيه؛ فكل الناس تعرف أنها ستموت، ولكنهم يعملون عمل الذي لا يموت)،
روي ابن ماجة عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الْمُؤمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَحْسَنهُمْ خُلُقاً». قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوتِ ذِكْراً، وَأَحسنهُمْ لِمَا بَعْدَهُ اسْتِعدَاداً، أُولئِكَ الأكْيَاس»
وروي ابن حبان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، فَمَا ذَكَرَهُ عَبْدٌ - قَطُّ - وَهُوَ فِي ضِيقٍ، إِلاَّ وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، وَلاَ ذَكَرَهُ وَهُوَ فِي سَعَةٍ إِلاَّ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ». فذكر الموت أكبر علاج لما عليه الناس الآن من البحث عن فضول الدنيا.
كان السلف يقولون: إذا سرنا في جنازة لا نرى إلا متقنعاً باكياً.
وانظر في واقعنا إذا سرنا في الجنازات اليوم، كانوا يقولون: كنا لا ندري من نعزي لكثرة الباكين، واليوم لا ندري من نعزي لكثرة الضاحكين، وعند المصائب والآلام تدخل المقبرة حين توديع الأموات فلا ترى الناس يتأثرون، فإذا لم تؤثر المقابر وأخبار أهل القبور فينا وتغير من أحوالنا فما الذي يؤثر فينا ما الذي يغير الواقع؟ إن مصير الغافلين مصير مظلم لا يعلمه إلا الله، تخونهم الذنوب والمعاصي في ساعة هم أحوج ما يكونون للتثبيت من الله جل في علاه.
عن الحسن البصري قال : أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا وجب، وكأن الذين نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون نبوئهم أجداثهم ونأكل تراثهم، كأن مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظة وامنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وأنفق من مال كسبه من غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكم، طوبى لمن أذل نفسه وحسن خليقته، وأصلح سريرته وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم يتعدها إلى البدعة. وقيل: من لم يرتدع بالموت وبالقرآن، ثم تناطحت الجبال بين يديه، لم يرتدع.
وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: ما هذا التغافل عما أمرتم به والتسرع إلى ما نهيتم عنه، إن كنتم على يقين فأنتم حمقى وإن كنتم على شك فأنتم هلكى.
اخي الحبيب اياك الغفلة عن تذكر اليوم الآخر تذكر على الدوام، كأنك ترى الناس قد قاموا من قبورهم ووقفوا في أرض المحشر حفاة عراة غرلاً، والشمس فوقهم، والأرض قد بدلت غير الأرض التي نحن عليها، قد غيرت صفاتها، وسيرت جبالها، وعرق الناس حتى ضرب في الأرض قدر قامة رجل، وقدر سبعين ذراعاً، ومن الناس من عرقه إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً، نسأل الله العافية.
وكأنك ترى الناس وقد تطايرت صحفهم، يأخذونها باليمين أو بالشمائل من وراء ظهورهم والعياذ بالله.
فكأنك ترى الموازين قد نصبت، فهذا يرجح ميزانه فيسعد سعادة لا شقاء بعدها أبداً، وذاك يخف ميزانه فيشقى شقاء لا سعادة بعده أبداً والعياذ بالله.
والناس في هذا الموقف الهائل منتظرين ماذا يصنع بهم، والمؤمن يؤتى كتابه بيمينه ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19]، والكافر يؤتى كتابه بشماله فيقول: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] والعياذ بالله.
وكأنك تنظر إلى الناس وهم يمرون على الصراط، ومنهم من يتساقط، ومنهم من يخدش وينجو، ومنهم من يمر كالبرق، تذكر هذه المعاني، وذلك لن يتم إلا بذكر الله عز وجل بالقرآن وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى يحيا ذلك القلب وتذهب عنه الغفلة.
إذاً: لابد من الذكر وترك الغفلة، وسائر أصول الإيمان والإسلام تحتاج إلى ذكر وبعد عن الغفلة، ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا)).
يقول ابن القيم: فوا أسفاه وواحسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً، وموته كمداً، ومعاده حسرة!!
رابعا : من طرق الشفاء من الغفلة
يا أيها الأحبة! ليست الغفلة ضربة لازب أو مرضاً لا يوجد له دواء لا، الغفلة داء وما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء؛ علمه من علمه وجهله من جهله، يمكننا أن نتخلص من هذه الغفلة بالاستعانة بالله سبحانه وتعالى، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (يا فاطمة! ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) رواه البزار والنسائي والحاكم.
التقوى والدعاء علاج للغفلة
إذا أردنا أن نعالج أنفسنا من الغفلة فلنتعلق بالله ولنقل: يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لنتعرف بأننا غافلون، ولنتعلق بالله لينجينا ولينقذنا من هذه الغفلة تعلق الغريق، وننادي نداء المكروب: اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كله لا إله إلا أنت.
ذكر الخاتمة علاج للغفلة
أيها الأحبة: تزول الغفلة بتذكر الخاتمة، عش ما شئت فإنك ميت، يقول أبو الدرداء لما حضرته الوفاة: من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لساعتي هذه؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ ثم تلا قول الله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]
إذا أردنا أن تنجلي هذه الغفلة فلنتذكر أننا راحلون، كم جنازة صلينا عليها تذكر أنك يوماً من الأيام واحدة من الجنائز التي يصلى عليها، زر المقابر وتأمل أحوال هذه المقابر:
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه وأين الغني إذا ما افتقر
مجالس الذكر علاج للغفلة
جاءت أحاديث كثيرة في فضيلة مجالس الذكر، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا غيره، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) أي: لأنهم جلسوا يذكرون الله عز وجل.
وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم).
اللَّهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلا تَنْفَعُه الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأكنَّتْهُ سَرَائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائحِ والْمَعَائبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُ بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنِبٍ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
جمع وترتيب \ ثروت سويف \ امام وخطيب ومدرس
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|