برنامج بنيان مرصوص. د. رقية العلواني.(الرحمة)
. استوقفتني كثيراً الآية التي يقول فيها ربي عز وجل مخاطباً حبيبه صلى الله عليه وسلم (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء) الرحمة، الرحمة هي خلاصة هذا الدين العظيم، ديننا يقوم على الرحمة، علاقتنا بالله عز وجل تقوم على الرحمة، علاقتنا بالآخرين تقوم على الرحمة، علاقتي بالكون من حولي تقوم على الرحمة، وعلى قدر ما أمتلك من الرحمة في قلبي وفي سلوكي وفي تصرفاتي على قدر ما أنال من رحمة الله عز وجل فالراحمون يرحمهم الله ومن لا يَرحم لا يُرحَم.
ولكن قبل أن نخوض في الحديث عن الرحمة أكثر دعونا نتعرف ما هي الرحمة إبتداءً؟ هل هي مجرد شعور مؤقت؟ هل هي مجرد عاطفة جياشة تدفعني إلى سكب شيء من الدموع من عيني وأنا أرى بعض المناظر المؤلمة ثم بعد ذلك ألتزم الصمت؟ أم أن الرحمة التي تتحدث عنها الآية والتي هي خلاصة هذا الدين العظيم وخلاصة علاقتي بالآخرين وخلاصة كل شيء في ديني إنما هي خُلُق ثابت وسجيّة وطبع ينبغي أن يتحول بالتصرفات وبالأعمال وبالأقوال إلى شيء ثابت شيء أعتاد عليه يصبح جزء من حياتي يصبح جزء من عملي اليومي، أن تتحول تصرفاتي لإزالة ما يقع على الآخرين من أذى، أيّ نوع من أنواع الأذى، أيّ نوع من أنواع الألم والحزن أراه ربما في بعض الأحيان حتى على طير يطير أمام عيني ورأيت أن هذا الطير أو هذه الحمامة ربما تعاني من شيء تعاني ربما من كسر في جناحيها تعاني من أي شيء تعاني من عطش هي لا تتكلم ولا تملك لغة البيان أو التعبير عن الحزن، ولكن أنا بما امتلكت به من إنسانية ومن رحمة تأثرت بها نتيجة لاعتزازي ونتيجة لفهمي لتعاليم ديني بشكل صحيح. تحرّكت في نفسي المشاعر والعواطف من الرحمة فقمت بإزالة الأذى عن هذه الحمامة أو هذا الطائر أو قطة تمشي على الأرض أو أي شيء.
إذاً هي ما عادت مجرد عاطفة ولا عادت مجرد دمعة أو دمعتين وإن كان هذا بعض أعراضها ولكن هي تحولت إلى تصرّف يدفع بالإنسان المسلم إلى القيام بشيء لأجل إزالة الأذى أو الضرر أو ما يقع من ألم أو حزن على الآخرين، أن أُسهم في حل أن أُسهم في تغيير الشيء السلبي الذي أراه أمامي أن أسهم في تغيير الحزن الذي أراه بادياً على وجوه الأخرين من حولي ربما كانوا لا يعيشون قريباً مني ربما كانوا بعيدين عني ولكني أُسهم بطريقة أو بأخرى في إيجاد حل وإيقاف أحزانهم وآلامهم وما يمرون به، هذه هي الرحمة. هذه هي الرحمة التي أراد ربي عز وجل أن يجعلها جزءاً لا يتجزأ من هذا الدين القائم على الرحمة. إسلام بدون رحمة لا يسمى إسلاماً كاملاً، هو رحمة، ملخص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة للعالمين، للكل، للمسلم ولغير المسلم، لمن يعيش قريباً مني ولمن يعيش بعيداً عني، للجميع، رحمة.
فما هو حظي من هذه الرحمة هذا السؤال الذي أحتاج أن أوجهه لنفسي في إطار محاسبة ومراجعة الذات ما هو نصيبي من الرحمة بالآخرين؟ أولاً ما هو نصيبي من الرحمة بنفسي؟ وقد يتساءل الإنسان كيف؟! طبعاً أنا أرحم الناس بنفسي نفسي، أقرب الناس إليّ فكيف لا ينالها النصيب والحظ الأكبر من الرحمة؟! الحقيقة أن هذا الأمر أحياناً يغيب عن بال الكثيرين منا إذا كانت رحمتي بنفسي رحمة حقيقية فعليّ أن أترجم هذه الرحمة إلى تصرفات، إن كنت أشد الناس رحمة بنفسي فعلي أن أرحمها بتجنب ما يغضب الله عز وجل والإبتعاد عنه، علي أن أرحمها بتقديم العمل الصالح، أرأيت لو أن الله عز وجل قد أنعم عليك بفضل مال شيء زائد عن حاجتك ربما طعام ربما ملبس ربما أي شيء من عَرَض الدنيا إذا كنت بالفعل رحيماً بنفسك فعليك أن تبادر بإخراج ما لديك من فضل ومن زيادة للآخرين . إذا كان يكفيك صحن من الطعام أخرج ما زاد عن حاجتك للآخرين لجيرانك لمن حولك حتى لمن لم تعرف أخرج كل ما لديك هذه من أعظم أشكال الرحمة بنفسك أولاً قبل الرحمة بالآخرين وتأكد تماماً أن خلاصة رحمتك بنفسك إنما تنحصر في مدى إشغال هذه النفس بعمل الخير والسعي فيه والعمل الصالح وتقديمه قبل فوات الأوان.
ما من استثمار أعظم من أن تستثمر في العمل الصالح والخير، اِشغل نفسك بالطاعات إذا أردت أن تقدم وتستأثر بشيء لنفسك فقدّمه بين يدي الله (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ (110) البقرة) كل أنواع الخير بكل أشكاله، الكلمة الطيبة، الإبتسامة الصادقة، المواساة بالكلمة، المواساة بالرحمة، المواساة بتفريج الكروب وتنفيس الهموم عن الآخرين ومواساتهم بكلمة طيبة وبمبادرة غير متوقعة من عمل صالح من أعظم الأعمال التي تعكس مدى رحمتي بنفسي أولاً قبل رحمتي بالآخرين لأن البعض يخطئ ويبخل حين يعتقد أن العمل الصالح الذي أقدمه أنا أقدمه للآخرين. اِسمح لي أنت مخطئ، عمل الخير الذي تقدمه أنت للآخرين إنما تقدمه لنفسك ولذلك من عمل خيراً فلنفسه كما أن من يعمل السوء إنما هو يعمل هذا السوء على نفسه. إذاً هو الرحمة بالنفس أولاً هي التي أحتاج أن أجددها ثم هذه الرحمة بالنفس تبدأ تفيض بالعطاء لأن الرحمة سبحان الله العظيم كالنبع تماماً بقدر ما تأخذ منه بقدر ما يزداد عطاءً وفيضاناً بالخير، كلما أمسكت عن العطاء كلما بدأ هذا النبع أن ينضب شيئاً فشيئاً إذا أردت الزيادة فيه عليك أن تأخذ منه أكثر، عليك أن تفيض به أكثر.
الرحمة بالآخرين الرحمة لا تحتاج في بعض الأحيان إلى عطاء مادي لأننا نحن في الآونة الأخيرة كل شيء حولناه إلى أشياء مادية كل شيء مادي يعتقد البعض منا أنه إذا أخرج ديناراً أو درهماً أو جنيهاً للآخرين اِنتهت مسؤوليته تماماً لا يحتاج إلى إخراج شيء آخر، لا، المسألة لا تنحصر في العطاء المادي. بل العطاء المادي إذا لم يكن أساساً مُخرَجاً بالعطاء المعنوي والعاطفي لا يصبح ذاك العطاء ذو معنى ولا له أي نوع من أنواع المعاني التي أراد لها هذا الدين العظيم أن تتواجد في نفس المعطي قبل نفس من يأخذ بمعنى آخر قبل أن تخرج العطاء المادي قلّ أو كثر ضع معه شيئاً من لمسة الحنان والعطف والرحمة والحب والشفقة بالآخرين. الجنيه والدينار إذا أُخرِج بدون رحمة وبدون شفقة وبدون رغبة صادقة وبدون إيمان بالله سبحانه الذي أمر بالرحمة الذي من أسمائه عز وجل “الرحمن الرحيم” أكثر اسمين نرددهما ونكررهما “الرحمن الرحيم” بعد لفظ الجلالة “الله” ولذا تتكرر الكلمة بسم الله الرحمن الرحيم لتذكرني بأن ديني مبني على الرحمة ومشتق من الرحمة. الجنيه أو الدينار الذ يخرج بدون رحمة جاف ناشف متيبس متصلب لن يؤدي قيمته ولن يؤدي معناه أو غرضه الإنفاق قبل أن يكون إنفاقاً مادياً هو إنفاق عاطفي إنفاق الرحمة عوّد نفسك دائماً قبل أن تقدم أي شيء مادي إسأل نفسك سؤالاً مباشراً يا نفس بما تشعرين كيف تشعرين؟ لماذا تمتد يدك بالعطاء المادي للآخرين؟ أين الرحمة اِبحث عن الرحمة في جوهرك في داخلك قبل أن تمتد يدك إلى جيبك.
هذه النقطة نقطة مهمة ينبغي أن تكون وأن تستحضر في حياتنا. الناس في كثير من الأحيان كل من حولنا ليسوا بحاجة إلى العطاء المادي بقدر حاجتهم إلى العطاء المعنوي وعطاء الرحمة ولذلك قد يسبق درهم ألف درهم وقد يسبق دينار ألف ألف ألف دينار لأن ذاك الدينار قد أُخرِج برحمة وربما الألف ألف ألف خرجت ناشفة يابسة لا عطاء فيها ولا رحمة لا روح فيها لأنها خلت من الرحمة. المسألة ليست العطاء المادي، المسألة عطاء الروح وعطاء الرحمة ولذلك الإنسان وقد ذُكر هذا في القرآن في أكثر من مرة الإنسان أحياناً يتمنى من أعماق قلبه أن يكون لديه فضل من مال أو فضل من وقت أو فضل من شي يقدمه للآخرين ولكنه لا يمتلك ولكن النية مع الله قد صدقت. إنفاق الرحمة صدق فيه فوصلت الدرجة ووصل العمل ووصل الإحسان على الرغم من أنه لم يواكبه العطاء المادي لأن المطلوب هو الرحمة وليس المطلوب العطاء المادي البحت الخالي من الرحمة.
اليوم في عصرنا وفي وقتنا الحاضر كلنا نشكو من قسوة في القلب قسوة في قلوبنا حتى ونحن نقرأ ونتلو آيات القرآن العظيم والتأثر إلى حد كبير. القسوة ونحن نرى في كل يوم وليلة عشرات المناظر المؤلمة التي ينبغي أن تفجر القلب كمداً وحزناً على ما فيها من مناظر مؤلمة، أشياء ينفطر لها القلب السليم القلب الحيّ، القلب الذي لا يزال فيه بقية من روح. ولكن نحن ونحن نعيش حالة القسوة التي نعيش ربما ننظر إلى هذه المناظر ونحن نحتسي طبقاً من الحساء أو كوباً من الشاي أو ربما حتى طبقاً من الحلو ونحن ننظر إلى هذه المناظر المؤلمة! إنسان يحترق، يد تقطع، رجل تكسر، بيت يهدم على أصحابه، حيّ بأكمله يُدَكّ دكاً فيصبح أثراً بعد عين ونحن ننظر إلى هذه المناظر ونقول ويمكن تخرج كلمة “لا حول ولا قوة إلا بالله” ولكن هي ليست الكلمات، السؤال أين الرحمة؟ وقد يقول أو يبادر البعض منا وماذا بيدي حتى أغيّر؟ الرحمة ليست أن يطلع بيدك أو يخرج من يدك، الرحمة شعور في القلب، اِسأل قلبك أين الرحمة؟ اِسأل قلبك أين العطف؟ اِسأل قلبك أين الشفقة؟ وحاول أن تقوم بعملية قياس لمقدار الرحمة في قلبك أرأيت ذلك الجهاز الذي يستعمله الكثيرون جهاز قياس السكر في الدم حتى يبين للإنسان أن كان السكر مرتفع أو منخفض، أين أجهزة قياس الرحمة في قلوبنا؟ في حياتنا؟ في واقعنا؟ جهاز قياس الرحمة يتمثل في أمرين: الأمر الأول مدى تحرك مشاعرك من الداخل في القلب يعني بمعنى آخر اِسأل نفسك وأنت تنظر وأنت ترى هذه المناظر مع أحوال القلب؟ تأثر؟ تألم؟ صرخ؟ أم تجمدت فيه مشاعر الإحساس ما عاد يصرخ ولا عاد يبكي ولا عاد يتأثر؟ أصبح الأمر عنده سيان رأى أم لم يرى! هذه واحدة. الأمر الآخر ما هي الخطوة التي قرر القلب أن يتخذها لأجل أن يغير ما يراه ويزيل ما يراه من آلام الآخرين؟ ولو كان هذا التغيير أو هذه الخطوة أن ترتفع يدي بقلب صادق ومعها دموع صادقة وساخنة في نفس الوقت تعبر عن إحساسي لله سبحانه متجهة بكل صدق لله سبحانه أن يا رب غير ما قد نزل بإخوتي وإخواني من المسلمين في كل مكان غيّر حالهم غيّر أحزانهم فرّج همومهم نفّس كروبهم.
وأنا متأكدة أنك ستبادر بالقول وتقول أدعو في كل صلاة بهذا الدعاء أنا لا أتكلم عن الدعاء أنا أتكلم عن الشعور والإحساس الذي يصاحب هذا الدعاء أنا أتكلم عن الألم أنا أتكلم عن دعوة المضطر التي يقول فيها ربي عز وجل (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ (62) النمل) هل وصل قلبي وقلبك إلى مرحلة الاضطرار حتى يجيب ربي الدعاء وأنا أرى كل هذا الكمّ المهول من الألم والحزن الذي بات يخيم على مدن وقرى وقلوب وتجمعات المسلمين في كل مكان؟! هذا الذي نتساءل عنه، نحن لا نتحدث عن الكلمات نحن نحاول هنا أن نتسامر ونتحادث ونتشاكى لبعضنا البعض عن المشاعر عن الأحاسيس عن القلوب لأن عُمدة البنيان المرصوص ليست هي مجموعة ذرات الاسمنت أو الطوب، لا، هي ذرات الإحساس ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما قلنا في أول حديثنا عن البنيان المرصوص قال “إذا اشتكى منه عضو” أحاسيس، مشاعر، القضية لا تتحدث فقط عن الأعمال والتصرفات والأموال والأشياء الشكلية نستطيع أن نقول وإن كانت ليست شكلية نحن نتحدث عن العمق هذا الذي نريد أن نصل إليه، لأن على قدر حظي من هذا العمق والإحساس على قدر حظي من العمل ومن النتيجة والثمر. يعني أشعر أني قد أثقلت عليكم كثيراً ولكن أحياناً بصدق هذا النوع من الشعور نحن نحتاج إليه حتى يعيد فينا من جديد المعاني التي ربما افتقدناها، الشعور بالرحمة.
أستودعكم الله السلام عليكم ورحمة الله.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|