هناك سؤال يَجب أن يدور في قلب المسلم، يجب أن يدور في قلبه وخاطره وهو يمضي مع الحياة بمختلف أحداثها من أفراحٍ وأتراح، ومن عسر ويُسر، ومن غنى وفقر، ومن صحَّة ومرض، ومن قوَّة وضعف.
لماذا خلقنا الله؟
سؤال مُهِم يَجب أن يعرفَ المسلمُ إجابته المهمة، هذا السؤالُ نفسه يثير قضية مهمة، قضية يتميز بها المؤمن الصَّادق من الكافر، فالمؤمن يجب أن يعرف مهمته في الحياة، وبدايته ونهايته، لا يحل للمؤمن أن يعيشَ كالأنعام، يأكل ويشرب ويلهو، وينام ويستيقظ، وتظلُّ الأيام تدور به على هذه الوتيرة، يلهث وراء الدنيا لا يشبع منها، يَجري ويلهث ولا يُفكِّر، لا في واقعه ولا بدايته، إنَّه يعيش تائهًا أو في خدر، وقد يُصلِّي ويصوم ويؤدي الشعائر كلها أو بعضها، ولكن تفكيره في غير دُنياه متعطل، والأسئلة التي تدور في ذهنه تنحصر في دُنياه؛ كيف يزيد ماله؟ كيف يستثمر؟ كيف ينال منصبًا أعلى؟ كيف يُنافس هذا وذاك على الدنيا؟ وأمور أخرى كثيرة مثل هذا.
ولكنه لا يفكِّر كيف يضع ماله في طاعة الله، ولا جهده وعلمه وسعيه؟ أخذتْه الدنيا وشدَّته إلى زينتها، وقد يكون هذا كله تحت شعار الإسلام، تحت غطاء أداء الشعائر وحْدَها، ثم الانغماس في طلب الدنيا، واستمع إلى قوله - سبحانه تعالى -:
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179].
وأين نجد الإجابة؟ إننا نجد الإجابة أولاً في فطرتنا التي فطرنا الله عليها، ما دامت الفطرة سليمة لم تفسدْ ولم تتشوهْ، وكذلك يجد المسلم الإجابةَ في منهاج الله - قرآنًا وسنة ولغةً عربية - يجد المسلم الإجابةَ وهو يستجيب لأمر الله ورسوله بتدبُّر منهاج الله.
ومَن هنا، يُدرك المسلم أنَّ الله خلقنا لنُؤدِّي مُهِمَّةً في الحياة الدنيا، وأنَّ الله لم يَخلقنا عبثًا، ولن يتركنا سُدًى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 115 - 118].
فالله - سبحانه وتعالى - لَم يَخلقْنا عبثًا، وكذلك لم يتركنا سُدًى:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ [القيامة: 36 - 40].
تدبَّر هذه الآيات الكريمة أيها المسلم، قِفْ عندها طويلاً، وتأمَّل معانيها وظلالَها، ما دمت تؤمن بالله وتؤمن بأن هذه الآيات الكريمة من عند الله.
سيكون أول نتائج هذا التأمل والتدبر أن يدرك المسلمُ أن الله لم يخلقه عبثًا، وإنَّما خلقه ليؤدي مهمة في الحياة الدُّنيا، على طريق مسيرته إلى الدار الآخرة؛ حيث يرجع الخلق كلهم إلى ربِّهم.
إنَّ الله - سبحانه وتعالى - الذي تولَّى رعايةَ الإنسان منذ أنْ كان نطفةً إلى أنْ سوَّاه رجلاً، يتولاه أيضًا ويرعاه في جميع مراحل حياته؛ في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة، وقبل أن يكون نطفة، حين لم يكن شيئًا مذكورًا في عالم الغيب.
وهنا يثور السؤال الآخر: إذا كان الله - سبحانه وتعالى - قد خلقنا لمهمة نُؤدِّيها في الحياة الدُّنيا على طريق دربنا إلى الآخرة، فما هذه المهمة التي خلقنا الله لها؟
إنَّ منهاج الله هو الذي يبِّين لنا هذه المهمة، لقد بيَّن الله - سبحانه وتعالى - لنا هذه المهمة بصُورتها العامة في أربعة مُصطلحات قرآنية ربانية، نذكرها فيما يلي، وكل مُصطلح وَحْده يُعَرِّف المهمة نفسها، والمصطلحات الأربعة مجتمعة تعرض المهمة من جميع جوانبها، ثم يُفصِّل - سبحانه وتعالى - المهمة كلها التفصيلَ الأوفى، حتى لا يبقى لأحدٍ عذر في عدم الوفاء بها:
1- العبادة:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
2- الأمانة:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 72 - 73].
3- الخلافة:
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].
4- العمارة:
﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ﴾ [هود: 61].
﴿ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾؛ أي: طلب منكم عمارتها، عمارة الأرض كلها، عمارتها بالإيمان، وبعبادة الله، والوفاء بالأمانة، والقيام بالخلافة، عمارتها بحضارة الإيمان بكل أبعادها ومعانيها.
وقد كتب الله على بني آدم أن يقوموا بهذه المهمة في الحياة الدُّنيا من خلال الابتلاء والتمحيص:
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165].
فلا بد للمسلم أن يعي هذه الحقيقة، وأن يستعدَّ فكريًّا ونفسيًّا - أو بصورة أعم: إيمانيًّا - لِحُسن التعامُل مع الابتلاء؛ حتى يكون الابتلاء قوة للمؤمن تدفعه إلى المُضُيِّ على صراط مستقيم.
لا يَخرج الإنسانُ من الحياة الدُّنيا إلاَّ بعد أن يكون قد استوفى ابتلاءه، على سنن لله ماضية، وحكمة بالغة، وقدر غالب، ويخرج الإنسانُ من هذه الحياة الدُّنيا؛ لتكونَ نتيجةُ عمله في حياته حُجَّةً له يومَ القيامة أو حجة عليه، فتكون الحياة الدنيا هي الفرصةَ الوحيدة للإنسان ليصلح خطأه، أو ليتوب ويستغفر وينيب، فبعد الموت لا توبةَ ولا استغفارَ ولا رجعة إلى الدنيا؛ ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100].
ومن رحمة الله بعباده وفضله عليهم أنْ جعل أداءَ هذه المهمة في الحياة الدُّنيا عهدًا مع الله وميثاقًا يوفون به، ونقضُ العهد نتيجتُه خسارة وهلاك.
﴿ ... وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ [البقرة: 40].
وامتد هذا الميثاقُ مع كل نبي ورسول، ومع شعوبهم ممن آمن بهم، ومع خاتم الأنبياء محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومع الأمة المسلمة حتى قيام الساعة.
والله - سبحانه وتعالى - لَم يتركنا سُدًى بعد أن خلقنا لنؤدي مهمةً في هذه الحياة الدنيا، لقد مَنَّ الله علينا بفضله ورحمته أنْ منحنا نِعَمًا لا تُحصى تعيننا على الوفاء بالعبادة والأمانة والخلافة والعمارة، بالعهد والميثاق الذي أخذه الله علينا.
ولندرك مَجالاتِ هذه النعم العظيمة، يُمكن أن نعرضَها من خلال وحدات أربع؛ من أجل تيسير التصوُّر، ولكنَّ النعم لا تُحصى، مهما عرضنا منها فإننا لا نوفيها:
أ- النعم التي وهبها الله لنا في ذاتنا، في داخلنا وجسمنا:
الروح، والفطرة، والسمع، والبصر، والفؤاد، والعافية، وكل جزء من جسم الإنسان مما نعلم ومما لا نعلم - هو نعمةٌ من الله، وهبنا إيَّاها؛ لتعيننا على الوفاء بالمهمة التي خُلِقنا لها وبالعهد الذي أخذه الله علينا.
ب - النِّعَم التي وهبها الله لنا في حياتنا ومن حولنا:
الرزق، والبيت، والمأوى، والزوجة، والأولاد، والثمار، والطعام، والهواء، والشمس، وعَدِّد ما شئت من ذلك.
ج - سنن الله في الكون:
السنن التي سَخَّرها الله للإنسان؛ ليستفيد منها في الوفاء بعهده، والقيام بالمهمة التي خلق لها، ولنذكر قوله - سبحانه وتعالى -:
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾ [لقمان: 20].
وكذلك:
﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 23].
ما أعظم هذه النعمة! السموات والأرض وما فيهما، كلُّه مُسَخَّر للإنسان؛ ليوفي بالعبادة والأمانة والخلافة والعمارة، بالمهمَّة التي خُلِقَ لها؛ ليوفي بعهده مع الله، فمن يستطيع أن يُحصي هذه النعم؟! وذلك كله يَمضي على سنن لله ثابتة؛ ليسهل على الإنسان معرفتها والاستفادة منها.
د- ما فرضه الله علينا من تكاليف تعيننا على الوفاء بالعهد كله:
ولا يُمكن الوفاء بالعهد كله إلاَّ بهذه التكاليف أولاً، فهي تمد بالقوة والعزيمة، وتعالج النفس، وتدفع الإنسان على صراطٍ مُستقيم إلى الحق، هذه التكاليف هي: الأركان الخمسة، الشهادتان، والشعائر، وطلب العلم من منهاج الله، ثُمَّ متابعة سائر التكاليف الربانيَّة على صراط مستقيم، هذه التكاليف أساسُها الأركانُ الخمسة وطلب العلم، وهي زادُ المؤمن الأول وسلاحه وعتاده للنُّزول إلى ميدان الوفاء بالعهد وأداءِ المهمة التي خُلِقَ لَها، وبغيرها لا يُقْبَل منه عمل، ولا يصحُّ منه وفاء بعهد، ولا قيام بأمانة.
هذه صورةٌ نهدف منها إلى بيان مَجالات نعم الله التي لا تُحصى في أي مجال من هذه المجالات، ونهدف منها إلى أن نَخشع بين يدي الله في توبة وإنابة ونحن نتدبَّر هذه النعم العظيمة التي لا تُحصى، وهذه كلها جعلها الله رحمةً منه ونعمةً؛ لتُعين الإنسان على القيام بالمهمة التي خُلِق لها، والتي سيحاسَب عليها يوم القيامة؛ ﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34].
5 - صورة أخرى للتعبير عن المهمة التي خلقنا الله للوفاء بها في الحياة الدنيا:
إنَّ المهمةَ التي خُلِقنا لأدائها في هذه الحياة الدنيا، وعرَّفناها تعريفًا مُجملاً بالمصطلحات الأربعة، والتي فُصِّلت تفصيلاً أوفى في منهاجِ الله - يُمكننا أن نوجزها في مصطلح واحد في واقعنا اليوم، ذلك المصطلح هو: ممارسة منهاج الله في الواقع البشري.
إنَّها مسؤولية الفرد المسلم من ناحية، ومسؤولية الأُمَّة من ناحية أخرى، وهذه المسؤولية يُمكن توضيحها من خلال آيات كثيرة في منهاج الله، ولكننا نكتفي بأخذ قبسات؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
وكذلك قوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: 155].
ومن هذه الآيات الكريمة وغيرها نجد أنَّ المهمةَ التي خُلِق لها الإنسان؛ ليُؤديها في الحياة الدُّنيا، والتي عَبَّر عنها القرآن الكريم بالمصطلحات الأربعة التي ذكرناها - تتحقق كلها في الواقع البشري بممارسة منهاج الله مُمارسة إيمانية بتكامُله وترابطه وتناسقه.
وممارسة منهاج الله في الواقع البشري تعني القيامَ بالتكاليف الربانية، التي فصَّلها منهاج الله تفصيلاً لا يَدَعُ عُذرًا لمتفلِّت، وهذه التكاليفُ الربانية منوطة بكل مسلم، قَدْرَ وُسْعِه الصادق، الذي سيحاسَب عليه، ومنوطة بالأُمَّة كلها، ويُمكن أن نعيدَ ما سبق أنْ ذكَرناه من أن كلَّ وفاء بالمهمة، وكل وفاء بالعهد يَجب أن يقوم على الأركان الخمسة، وينهض عليها، ثم ينطلق المسلم مع الأركان الخمسة بطلبِ العلم من منهاج الله، وهذا كله يمثل - كما ذكرنا قبلَ قليل - الزاد والعُدَّة اللازمة للميدان، ميدان الحياة، وممارسة منهاج الله بتكامُله في الواقع البشري؛ لتكون هذه كلها تكاليف ربانية مُترابطة متماسكة.
ومن أجل مُمارسة منهاج الله في الواقع البشري، يَجب فهم منهاج الله ودراسته وتدبُّره؛ حتى تتيسر ممارسته، ومن هنا ينهض أولئك الذي درسوا منهاجَ الله وتدبَّروه وفهموه، ينهضون ليبلِّغوا رسالةَ الله إلى الناس كافَّة، وليُعلِّموا الناسَ منهاج الله والمهمة التي خُلِقوا لها، والتي سيحاسبون عليها، وأول ما يدعو الدُّعاة الناسَ إليه هو الإيمان والتوحيد، حتى ينجوا من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة، ثم دراسة منهاج الله وتدبره وممارسته.
فَتُصْبحُ المهمة الواجبة على المسلم، المهمة الرئيسة هي تبليغُ رسالة الله إلى الناس كافَّة، بعد أن يكون قد تزوَّد بالزاد الحقِّ الضروري لهُ؛ لينزل إلى ميدان الدَّعوة يدعو ويبلِّغ رسالةَ الله إلى الناس ويتعهَّدهم عليها، حتى ينهضوا إلى ما نهض إليه، على نهج وخطةٍ ينبعان من منهاج الله، ويُلبِّيان حاجةَ الواقع، وأهم الزاد الضروري للداعية يُمكن إيجازه في نقاط كما يلي:
1- صفاء الإيمان والتوحيد.
2- صدق العلم بمنهاج الله.
3- وعي الواقع وفهمه من خلال منهاج الله.
4- سلامة الممارسة الإيمانية في الواقع.
هذه النقاط يَجب أن تتوافر في المسلم، الذي ينهض للوفاء بالعهد والأمانة والخلافة؛ طاعةً لله وعبادة له؛ حتى يقوى على تبليغِ رسالة الله إلى الناس؛ ليتعلَّموا كما تعلَّم، ويلتزموا كما التزم، كلٌّ قَدْرَ وُسعه الصادق، وحسابُ الجميع عند الله، وهذه نسميها الأسس الأربعة الرئيسة.
إذًا عرفنا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلقنا لأداءِ مُهمة في هذه الحياة الدنيا، في المسيرة إلى الدار الآخرة، من خلالِ ابتلاءٍ وتَمحيص، وعلى عهد وميثاق.
إنَّ هذه المهمة بيَّنها منهاجُ الله بصُورتها العامَّة بأربعة مصطلحات: العبادة، والأمانة، والخلافة، والعمارة، ثم فصَّلها منهاجُ الله تفصيلاً وافيًا.
يُمكن التعبير عن هذه المهمة التي خُلِقنا لها بممارسة منهاج الله ممارسةً إيمانية في الواقع البشري.
ومن هذه الممارسة الإيمانية لمنهاج الله نَجد أنَّ محور المهمة هو تبليغ رسالةِ الله إلى الناس وتعهُّدهم عليها؛ حتى يعلموا الحق الذي أُنزِل من عند الله، ويؤمنوا به، ويلتزموه ويدعوا إليه، ولتتحقق بذلك جميعُ معاني العبادة والأمانة والخلافة والعمارة، ويتحقَّق الوفاء بالعهد مع الله، كلُّ ذلك من خلال ابتلاءٍ وتَمحيص يُحدِّد مصيرَ الإنسانِ في الدار الآخرة: الجنة والنعيم، أم النار والجحيم؟ لقد أعطاك الله - أيُّها الإنسان - نعمًا جُلَّى لا تُحصى؛ لتعينك على الوفاء فأوفِ.
فالقضية إذًا خطيرة أيها المسلم، لا يوجد قضية أبدًا أخطر منها، إنَّها مصيرك أنت، مصيرك الحق الذي لا تستطيع أن تفرَّ منه أبدًا، ولكن تستطيع أن تستقيمَ على أمر الله، فتوفي بعهدك مع الله وأمانتك، والمهمة التي خُلِقت لها في هذه الحياة الدُّنيا.
إذًا الحياة الدنيا هي الفرصةُ الوحيدة التي جعلها الله للإنسان، لك أيها المسلم ولغيرك، وللناس جميعًا، والفُرصة الوحيدة لتصحيح خطئك وعجزك وتقصيرك، فإذا جاء الموت - والموت حق، ولن ينجوَ منه أحد - انقطع أمامك السبيل، ولا فائدةَ من توبة ولا أوبة ولا إصلاح؛ ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100].
قف - أيها الإنسان - وتفكَّر وتدبَّر وتأمَّل قبلَ فوات الفرصة، قف - أيها المسلم - وتأمَّل في مصيرك، وبين يديك الحق كلُّه، انجُ من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة، ولا تُهلك نفسك في غمراتِ زخرف الدنيا وفتنتها التي تحرفك عن الصراط المستقيم.
أيها المسلم، عسى الله أن يغفر لك ولنا ذنوبنا، ما دُمنا ماضين على الصِّراط المستقيم، كل خطأ يُمكن أن يغفره الله لمن يشاء، إلاَّ الشرك، فلا يغفره الله أبدًا.
لو كنت - أيها المسلم - موظفًا في دائرة أو شركة، ولك مهمة يجب أن تؤدِّيَها، وأعطتك الشركة أو الدائرة إمكاناتٍ لتوفي بالمهمة التي وُكِّلتَ بها، ثم أخذت أنت هذه الإمكانات من راتب، ومكتب، وسيارة، وهاتف، وغير ذلك، واستخدمتها في خدمةِ شركة أخرى أو دائرة أخرى، فهل تغفر لك الشركة خطيئتك هذه؟
والله - سبحانه وتعالى - خلقك لمهمةٍ تؤديها في الحياة الدُّنيا، ووهبك نعمًا جُلَّى لا تُحصى؛ من أجل أن توفي بهذه المهمة، فكيف يكون حالُك إن أنت وضعت هذه النِّعم في خدمةِ وَثَنٍ، مهما كان ذلك الوثن، إنسانًا، أو شهوة محرمة، أو عصبية جاهلية، أو إقبالاً على الدُّنيا آثرتها بذلك على الآخرة؟ كيف يكون حالُك لو أنَّك وضعت هذه النعم الجُلَّى التي لا تُحصى من أجل دُنياك، من أجل جمع ثروةٍ إلى ثروة تضعها في زَهْوَةِ الدُّنيا، من أجل سعي لاهث لزُخرُف من زخارف الدُّنيا، ولم تضعها للوفاء بالمهمة التي خُلِقت لها؟ إن لم يكن هذا هو الشرك، فما الشرك إذًا؟
تفكَّر - أيها المسلم - كيف تَمتد الفتنةُ في الأرض وينتشر الفساد، حين لا تنهض أنت للوفاء بما خُلقتَ له، وتنهض شياطين الإنس والجن يعملون ليلاً ونهارًا لنشر الفتنة والفساد، وأنت لاهٍ فيما زيَّنوه لك، واقعٌ في الشِّراك الذي نصبوه لك، فكِّر أيها المسلم، فالحياة الدنيا فرصتك الوحيدة لإصلاحِ أمرك، ولتستقيم على أمر الله، وتنهض للمهمة التي خُلِقت لها، فكِّر وتأمَّل وتدبَّرْ، ثم انهض قبل أن تهلِك.
إنَّ قيامَك بالوفاء بمُهمتك التي خُلِقْتَ لها - حاجة للبشرية كلها، إنَّك أنت - أيها المؤمن، والأمةُ المسلمة - حاجة البشرية كلها، وإن إدبارك عن المهمة التي خُلِقتَ لها معصية كبيرة، وباب فتنة كبيرة، وإفساد في الأرض كبير.
فكِّر - أيها المسلم - كيف ستلقى الله ولَم تُوفِ بمهمتك، ولم توفِ بأمانتك ولا بعهدك ولا بخلافتك، فكيف تكون أوفيت بعبادتك؟ كيف ستلقى الله؟ فَكِّر - أيها المسلم - قبل فوات الفرصة حين لات ساعة مندم.
أيها الإنسان، أيها المسلم، إنَّ المسيرةَ مُمتدة طويلة قدَّرها الله - سبحانه وتعالى - إنَّها مراحل متَّصلة، ينتقل الإنسانُ بقدر الله من حالةٍ إلى حالة؛ حتى يستقِرَّ في الدار الآخرة، في الجنة أو في النار.
أيها الإنسان، كنت في عالم الغيب شيئًا غير مذكور.
ثم كنت نطفة أمشاجًا.
ثم مررت بأطوار في الرحم.
ثم وُلِدت في هذه الحياة الدنيا، وجعلك الله سميعًا بصيرًا.
ثم جاءك الموت، وغادرت الحياة الدُّنيا.
ومضيت بعد الموت في مراحلَ يعلمها الله.
ثم تُبْعَث وتحاسَب.
ثم الخلود في جنة أو في نار.
هذه هي مسيرتك أيها الإنسان، قدرًا من عند الله، فانهضْ لمسؤوليتك وعهدك وأمانتك، واصدق الله، وأوفِ قبل أن تهلك.
وكان من رحمة الله أنْ جعل الحياة الدنيا أقصرَ مَرحلة في هذه الرحلة الطويلة لمسيرة الإنسان من غيب إلى غيب، إلى دار الخلود الدارِ الآخرة.
إنَّك خُلِقت في هذه الحياة الدنيا لتؤدي مُهمة، فلم تخلق عبثًا، وإن الله الذي خلقك هو الذي قدر عليك المهمة والمسؤولية، فلن يترككَ سُدًى، فقد أعطاك نعمًا جُلَّى لا تُحصى؛ لتعينك على الوفاء بأمانتك وعهدك، فلا تبدل نعمةَ الله كفرًا.
إنَّ النعم التي وهبها الله لنا، وَهَبها لنا لنُسخِّرها من أجل تَحقيق المهمة التي خلقنا الله لها في الحياة الدنيا، وهذا هو معنى العبادة الحقيقية، أن تُسَخِّر ما وهبك الله في طاعة الله على النحو الذي بيَّنه الله لنا في كتابه الكريم، إنَّها ليست الشعائر فحسب، وإن كانت كلها تقوم على الشهادتين والشعائر، إنَّها التكاليف الربَّانية بتكاملها وتناسُقها وترابُطها.
ونُؤكد ما قلناه من أنَّ محور مهمة المسلم في الحياة الدُّنيا، المهمةُ التي سيحاسَب عليها بين يدي الله - هي مُمارسة منهاج الله في الواقع البشري، بتكامُله وترابُطه، وهذا يَقتضي أن يدرس المسلم منهاجَ الله ويتدبَّره، ويُمارسه ممارسة إيمانية، ثم ينهض لتبليغ رسالة الله إلى الناس، حتى يقوموا هم أيضًا بالوفاء بما خُلِقوا له: تدبُّر منهاج الله، وممارسته، وتبليغ رسالة الله إلى الناس كافَّة، كما أنزلت على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
إِذًا محور ذلك كله هو تبليغ رسالة الله إلى الناس كافَّة، وتعهُّدهم عليها، على نهج وخطة تنبع من منهاجِ الله، وتُلبِّي حاجةَ الواقع، على أن يتزود الدَّاعية نفسُه بالزاد الحق، من الأسس الأربعة التي سبق ذكرها، ويظلُّ الداعية بحاجة دائمة إلى التفكير الإيماني؛ ليُجابه حالاتِ الواقع المتجدِّدة، وهو يبلغُ رسالةَ الله، فيجتهد لكلِّ موقف أفضل اجتهاد، مُحتفظًا بثوابت هذا الدين، وثوابت النهج والخطة العامة.
وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، رأينا أنَّ كثيرًا من الجهود تذهب في غير هذا الاتجاه، فتُستَهلك الطاقات والأموال والأوقات والجهود دون أن يصلح حال الإنسان، حال المسلم، وتَمضي ملايين المسلمين في الأرض لا ينهضون إلى ما أمرهم الله به نَهجًا متكاملاً مترابطًا، فهؤلاء يكتفون بجزءٍ من التكاليف الربانية، فينقطع بهم النهج والدَّرْب، وهؤلاء يكتفون بجزء آخر ينقطع به النهج والدرب، وتبقى الأُمَّة تعاني من مُشكلاتها ومن تزايُدها، ويبقى أهلُ الفتنة جادين، ينشرون فتنتهم وفجورَهم ليلَ نهار، يبذلون فكرهم ومكرهم، ومالهم ووقتهم، وطاقاتهم وجهدهم لنشر الفساد والفتنة في مُختلف أشكالها، يستغلون كلَّ وسيلة مُمكنة، ويغزون أوساطَ المؤمنين، وهم مُتكاتفون متعاونون، والمسلمون متفرِّقون متمزقون، يضعون كثيرًا من جهودهم على غير خطة ولا نهج، يضعون كثيرًا من جهودهم في غير موضعها، أو في غير وقتها، فتذهب فائدة هذه الجهود دون أن تثمر في الواقع ثمرةَ الإيمان المرجوَّة، وثمرة التقوى الضرورية، وثَمرة الوعي الصادق واليقظة القوية، بل اخترق أهلُ الفساد مواقعَ كثيرة بين المؤمنين.
فلتنظرْ إلى واقع المسلمين، تَرَ الأمثلة على ما نقول كثيرة لا داعِيَ لإحصائها، فهي بارزة في كثير من الميادين؛ حيثُ نرى الهزيمةَ تِلْوَ الهزيمة، والنكسة بعد النكسة.
إنَّ الله - سبحانه وتعالى - بَعَثَ الرُّسل والأنبياء ليُذكِّروا الناسَ بهذه الأمانة العظيمة، التي خُلِقوا للوفاء بها، وخُتِموا جميعهم بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبالقرآن الكريم، الذي أنزل بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنًا عليه، وبنى محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُمَّةَ الإسلام التي جعلها الله خَيْرَ أمة أُخرِجت للناس، تأمُر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتَحمل رسالةَ الله بعد النبوة الخاتمة إلى الناس جميعًا؛ ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110].
لقد كانت هذه الأمةُ خيرَ أمة أُخرِجت للناس بالخصائص الربَّانية الإيمانية، التي تتحلَّى بها، وبالرسالة الربانية التي تحملها إلى الناس كافَّة، إلى البشرية كلها، في جميع العصور حتى تقوم الساعة، وهذه المهمة هي محور الأمانة والعبادة والخلافة والعمارةِ وأساسُها وجوهرها، كما بَيَّنَّا قبلَ قليل؛ ذلك لأنَّهُ بهذه الرسالة وحدها - لا بأي رسالة أخرى - يستطيع الإنسانُ الوفاءَ بالأمانة والعهد الذي أخذه الله منه، إنَّها رحمةُ الله الكبرى، ونعمته الكبرى على عباده في الحياة الدُّنيا، ولتعينهم على الوفاء بالأمانة.
من هنا يتبين عِظَمُ الجريمة التي يرتكبها أولئك الذين يصدون عن سبيل الله، ويَحُولون دون تبليغ رسالة الله إلى الناس، كما أنزلت على محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودون تعهدهم عليها؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: 167 - 169].
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ﴾ [النحل: 88].
وآيات كثيرة تصفُ هولَ الجريمة التي تُرْتكب في الأرض بالصدِّ عن سبيل الله، وعن تبليغ الدَّعوة إلى الناس كافَّة، وعن تعهد الناس عليها، والمضيِّ على صراط مستقيم؛ حتى تكون كلمة الله هي العُليا، وشرعه في الأرض هو الأعلى؛ ليصلح حال الناس، ولينجوا من فتنة الدُّنيا ومن عذاب الآخرة.
هؤلاء هم المجرمون حقًّا، وأكثر المفسدين في الأرض إفسادًا، حين يُضيِّعون الأمانة التي خُلِقوا للوفاء بها، ويَمنعون الآخرين من الوفاء بها، فتفسد حياةُ الناس في الأرض، وتنتشر الحروب والمهالك، والزنا والربا، ويَمتد الظُّلم، ويشتد الفقرُ على أناس، ويَغْنَى آخرون، وتتفشى الأمراض، مما لم تعهده عصورٌ سابقة، وتمتد الكوارث والزلازل، وتصبح حياة الناس شقاءً بين زخرف كاذب، في فتنة بعد فتنة، وبلاء من الله شديد.
"الأمانة" هي المهمةُ التي خلق الإنسان للوفاء بها في الحياة الدُّنيا، فهي موضوعُ الابتلاء والتمحيص، وهي جوهرُ العبادة والخلافة والعمارة، كلُّها تقوم على "الأمانة"، و"الأمانة" تقوم عليها وبها.
فهل المسلمون اليوم رَعَوُا "الأمانة"، وأوفوا بها، وأرْضوا الله - سبحانه وتعالى؟! وإذا ضُيِّعت الأَمانة في الأرض، فكيف ضاعت، ومن ضيَّعها، ولِمَ ضاعت؟!
المسلمون اليومَ مسؤولون عن هذه الأمانة، وعليهم أن ينهضوا لها؛ ليُوفوا بها؛ من أجل سعادتهم ونجاتهم في الدُّنيا والآخرة، من أجل سعادة البشرية كلها، ونجاتهم ونجاة مَن يُريد الله له الهداية.
أيها المسلمون، لا تضيِّعوا الأمانة، ففي ضياعها ضياعكم، أيها المسلمون، إنَّ أولَ الأمانة هي أن تكونوا أمةً مُسلمة واحدة، صَفًّا كالبنيان المرصوص، انظروا كم من ديار المسلمين سقطت وضاعت! وكم من الديار غاب عنها شرعُ الله! وكم من الفتن تلتهب تُلْقِي بالكثيرين في جهنم، ممن لم يُرِد الله لهم الهداية والإيمان، أين الأُمَّة المسلمة المتراصة؛ لتنقذ المسلمين، وتنقذ البشرية؟!
ولقد كان من تكريم الله - سبحانه وتعالى - أن حَمَّل الإنسانَ هذه الأمانة، ويظل الإنسان في دائرة التكريم وهو يُجاهد صادقًا ليوفي بهذه الأمانة العظيمة، فإذا تخلَّى الإنسان عن هذه الأمانة، وأعرض عنها، فإنه يُصبح ظَلومًا جَهُولاً.
ولقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفةُ تُلِحُّ بهذه القضية إلحاحًا كثيرًا؛ لتبرز لنا خطورتَها في حياةِ البشرية كلها، وربطت بعض الآيات والأحاديث هذه الأمانةَ بالعهد الذي يبرمه المؤمنُ في الحياة الدنيا، سواء أكان العهد كلمة يلفظها، أم عقدًا يبرمه، ونأخذ هنا قبسات من منهاج الله؛ ليعودَ المسلم إلى منهاج الله فيرى الصورة بتفصيلاتها كاملة:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8].
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المعارج: 32].
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لا إيمانَ لمن لا أمانةَ له، ولا دينَ لمن لا عهد له))؛ [رواه أحمد وابن حبان في صحيحه][1].
ومهما ظن بعضُ الناس أنَّهم ناجون في الدُّنيا، فإنَّ حسابَ الله شديد، وعذابه شديد، ونُذَكِّر بحديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((... فإذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة...))؛ [رواه البخاري][2].
عندما تضيع الأمانة تصبح حياةُ الإنسان على الأرض مآسيَ وفواجعَ، وقوارع ونكبات، كما ترى اليوم.
أيها المسلمون، لا تضيِّعوا الأمانة، لقد أضعنا الكثير منها، فلا بُدَّ من وقفة ومُحاسبة للنفس ومجاهدة لها.
قضايا كثيرة في حياةِ المسلمين مَسَّها الخلل، وأصابها الاضطراب، وبِسَبب ذلك ضاعت قضايا كثيرة في حياة المسلمين، وأصابهم التفرُّق والتمزُّق، وغُلِب المسلمون على أمرهم، ووهن أمرهم، وفقدوا مَصادِرَ القُوة، وأسبابَ العزة والْمَنَعة، فانظر في واقع المسلمين اليوم وما أصابهم من نكبات وفواجع؛ عسى أن تستيقظ أيها المسلم.
لماذا أكثرُ اللاجئين المشردين هم من المسلمين؟!
لماذا أصبح العالم الإسلامي يُسَمَّى العالم الثالث المتخلف؟!
أين الأندلس؟!
لماذا ضاعت فلسطين؟!
أين البوسنة والهرسك؟!
أين كوسوفا؟!
أين كشمير؟!
أين مسلمو ألبانيا؟!
أين الهند المسلمة؟!
أين بلدان إفريقيا المسلمة؟!
لماذا سكانُ العالم الإسلامي كثيرٌ منهم فُقراء، وبلادهم غنية الثروة؟!
لماذا؟! لماذا؟! والأسئلة لا تنتهي، وهل سينتهي المسلسل؟!
فهل ضُيِّعت الأمانة؟! كيف ضُيِّعت؟ ولماذا ضُيِّعت؟
لقد ضاعت الأمانةُ لدى بعضِ الناس حتى في نَجْواهم وضمائرهم، وضاعت الأمانةُ من الكلمة لدى الكثيرين، الكلمة التي يُلقي بها الإنسان ثم يَمضي لا يُلقي لها بالاً، فإذا هي تُلقي به في جهنم، الكلمة والفكرة قضيتان مهمَّتان في حياةِ الإنسان على الأرض.
أمة مسلمة واحدة، تَحمل رسالةً رَبَّانية واحدة، تتحلَّى بالخصائص الإيمانية الربَّانية التي فصَّلها الله - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم، وسنة نبيِّه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
أيها المسلم، إنَّك مسؤول عن بناءِ الأمة المسلمة الواحدة حيثما كنت، ومسؤول عن إزاحة كل ما يعطِّل بناءها من فتن وعصبيات وأفكار دخيلة على الإسلام.
إنَّك مسؤول أيها المسلم، وكلُّ مسلم مسؤول عن إزالةِ أسباب الفرقة والتمزق بين المسلمين؛ ليحققوا وجودَ الأمة المسلمة الواحدة بخصائصها الربَّانية.
واجبنا الآن أن نستيقظَ ونُفيق ونصحو: فنُغَيِّر ما بأنفسنا، ونقوِّم نَهجنا، أو نضع النهج والخطة التي يلتقي عليها المؤمنون صفًّا واحدًا كالبُنيان المرصوص، صفًّا تتحقَّق فيه أُخُوة الإيمان كما أمر الله به، تتحقَّق سائرُ الروابط الإيمانية صافية نقيَّة من الشرك الظاهر والخفي، نقية من أيِّ شكل من أشكالِ العصبية الجاهلية، نقية من حُبِّ شهوات الدنيا الطاغية.
لا بُدَّ أن نغير ما بأنفسنا إن أردنا النصر والعِزَّة في الدُّنيا والنجاة من فتنتها، وكذلك إذا أردنا النجاة في الدار الآخرة.
أيها الإنسان، أيها المسلم، أفقْ واستيقظ، وانهض إلى مسؤوليتك، وعهدِك مع الله، والمهمة التي خُلِقتَ من أجلها في الحياة الدُّنيا في مسيرتك إلى الدار الآخرة، انهض إلى حق العبادة، والأمانة، والخلافة، وعمارة الأرض بحضارة الإيمان، أفق أيها المسلم واستيقظ وانهض، وفكرْ تفكيرًا إيمانيًّا، وامضِ على صراطٍ مُستقيم بيَّنَهُ الله، وفصَّله في المنهاج الربَّاني، بيَّنه وفصَّله لك أيها المسلم، ولك أيها الإنسان، ولعباده جميعًا؛ حتى لا يبقى عذرٌ لمتفلت أبدًا.
إنَّ الله - سبحانه وتعالى - وهبَنا هذه النعم وما ينطوي تَحتها من نعم لا تُحْصَى؛ حتى نسخِّرها للوفاء بالعبادة والأمانة والخلافة والعمارة، التي خُلِقنا لأدائها والوفاء بها، فهل أدَّينا الأمانة، وأوفينا بالعهد؟!
إنَّ خلاصةَ ذلك كله أن ينهضَ الإنسان إلى تبليغ رسالة الله إلى الناس جميعًا، كلٌّ قدر وسعه وطاقته، وسعه الصادق الذي يُحاسبه الله عليه، يبلِّغ الرسالةَ ويتعهَّد من يُبلِّغها إليه عن صدق نيةٍ، وصفاء إيمان، وصدق علم، وعلى نهج وخطة؛ حتى تقومَ الأمةُ المسلمة الواحدة لتحملَ الرسالة، وتنطلق في الأرض، تُجاهد في سبيل الله؛ حتى تكون كلمة الله هي العليا.
أيها المسلم، أنت المسؤول عن حماية الأمانة، وأيتها الأمة المسلمة أنت المسؤولة عن حماية الأمانة في الأرض وإقامتها، والحساب يوم القيامة عسير.