أرسل الله النبي صلى الله عليه وسلم ليبلغ عنه رسالته، وآتاه جوامع الكلم، فكان كلامه صلى الله عليه وسلم فصلاً ظاهرًا، ومنطقه بيِّنًا واضحًا، ما إن يقع على أذن مَنْ يجلس إليه شذرات منه، حتى يحفظه بمجرد سماعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يوجز المعاني الكثيرة في درر قليلة، ويختصر الكلام اختصارًا، في غير إخلال بالمعنى المراد، ولا تقصير في المقصود من وراء الكلام، فقد ورد في حديث متفق عليه أنه عليه الصلاة والسلام كان يحدث حديثًا لو عدَّه العادُّ لأحصاه. ولربما يتلفظ المتكلم بكلمة لا يعقلها السامع من أول مرة؛ لذلك كان صلى الله عليه وسلم يكرر الكلمة مرارًا؛ ليعقلها السامع ويعيها، روى البخاري في صحيحه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثًا لتعقل عنه"[1].
ورُوي أنه كان صلى الله عليه وسلم يعرض عن كل كلام قبيح، ويكني عن الأمور المستقبحة في العرف إذا اضطره الكلام إلى ذكرها. وكان كلامه صلى الله عليه وسلم فصيحًا محبَّرًا، متخيَّر اللفظ، منتخَل الأساليب، متراصِف النظم، متناسِب الفقرات، متشاكِل الأطراف، مهذَّب الألفاظ، منقَّح العبارات، محكَم السبك، لم تتعلق به ركاكة.
ولقد كان يخرج الكلام من فِيهِ صلى الله عليه وسلم وكأنه لؤلؤ منضود، ودُرٌّ مرصوف، وتِبر مسبوك، عذبًا سائغًا، ورقيقًا رشيقًا، وسلسًا سهلاً، خفيف الوقع على السمع، وسهل الجري على الألسنة.
ولقد كان كلامه صلى الله عليه وسلم كما يقول الجاحظ: هو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه، وكثُر عدد معانيه، وجلَّ عن الصنعة، ونُزِّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى: قل يا محمد: ﴿ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾ [ص: 86]، فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التعقيب، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حف بالعصمة، وشيد بالتأييد، ويسر بالتوفيق، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة، وغشاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام، وقلة عدد الكلام، مع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلَّت به قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلم القصار، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفَلْج[2] إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة،الخلابة: الخديعة برقيق الحديث. ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا، ولا أقصد لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح معنًى، ولا أبين في فحوى، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيرًا[3].
ويقول الرافعي عن فصاحته: أما فصاحته صلى الله عليه وسلم فهي من السمت الذي لا يؤخذ فيه على حقه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق، فإن العرب وإن هذبوا الكلام وحذفوه، وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، وروية مقصودة، وكان عن تكلِّف يُستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة اللغوية فيهم، فيشبه أن يكون القول مصنوعًا، مقدَّرًا على أنهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذف في موضع إطناب، وإطناب في موضع حذف، ومن كلمة غيرها أليق، ومعنى غيره أُريد، ثم هم في باب المعنى ليس لهم إلا حكمة التجربة، والأفضل ما يأخذ بعضهم عن بعض، قلَّ ذلك أو كثُر. والمعاني هي التي تعمر الكلام، وتستتبع ألفاظه، وبحسبها يكون ماؤه ورونقه وعلى مقدارها، وعلى وجه تأديتها، يكون مقدار الرأي فيه، ووجه القطع به. بيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقْط ولا استكراه، ولا تستزلُّه الفجاءة، وما يبده من أغراض الكلام عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب، والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد الناظر إلى كلامه طريقًا يتصفح منه صاعدًا أو منحدرًا. ثم أنت لا تعرف له إلا المعاني التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام، وليس فوقه مقدار إنساني من البلاغة والتسديد، وبراعة القصد، والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية.
ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كانت له صلى الله عليه وسلم إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا؛ إذ ابتعثه للعرب وهم قوم يقادون من ألسنتهم، ولهم المقامات المشهورة في البيان والفصاحة، ثم هم مختلفون في ذلك على تفاوت ما بين طبقاتهم في اللغات، وعلى اختلاف مواطنهم، فمنهم الفصيح والأفصح، ومنهم الجافي والمضطرب، ومنهم ذو اللوثة والخالص في منطقه، إلى ما كان من اشتراك اللغات وانفرادها بينهم، وتخصص بعض القبائل بأوضاع وصيغ مقصورة عليهم، لا يساهمهم فيها غيرهم من العرب إلا من خالطهم أو دنا منهم دنو المأخذ.
فكان صلى الله عليه وسلم يعلم كل ذلك على حقه، كأنما تكاشفه أوضاع اللغة بأسرارها، وتبادره بحقائقها، فيخاطب كل قوم بلحنهم، وعلى مذهبهم، ثم لا يكون إلا أفصحهم خطابًا، وأسدَّهم لفظًا، وأبينهم عبارة. ولم يعرف ذلك لغيره من العرب، ولو عُرف لقد كانوا نقلوه، وتحدثوا به، واستفاض فيهم.[4]