مشاهد من غزوة بدر: أمية بن خلف
انتهى الظلم والعدوان، ظلم وعدوان الجاهلية وكيدها على الحق والدين. انتهت تلك الأسطورة التي جعلت قريشاً تظن أنها بقوتها وجبروتها تستطيع أن تسحق الحق في نفوس أتباعه، ينتهي أمية بن خلف، السيد المطاع على يد الحق والعدل بيد بلال الحبشي الذي طالما عذبه بمكة، تلك الأنات التي يطلقها بلال: أَحد، أَحد، لم تذهب سدى، إنها سياط في وجه الظلم الكالح في كل زمان ومكان، ويثأر بلال، ولكن الثأر لم يكن لنفسه، وإنما هو للحق الذي يحمله بين جنبيه، وينتهي العدوان، ويرى أهله مصيرهم، والعاقبة للمتقين.
رحم الله بلالا، فقد أعطى القدوة مرتين:
الأولى: لتحمله العذاب والقهر في دين الله، فكان أقوى من الحديد، وأشد من الفولاذ.
الثانية: إذاقته لأعداء الله كأس المنية من يده، ليثبت للدنيا كلها، وللتاريخ البشري انتصار الحق والإيمان على الكفر والعدوان[1]".
قال الشاعر:
هنيئاً زادك الرحمن خيراً
لقد أدركت ثأرك يا بِلالُ
ولقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقتل أمية بن خلف، فكان كما قال[2].
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - قال: كاتبت أمية بن خلف كتاباً، بأن يحفظني في صاغيتي بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت الرحمن، قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته: عبد عمرو، فلما كان في يوم بدر، خرجت إلى جبل لأحرزه[3] حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال: أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا، خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه، وكان عبد الرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه[4].
أما ابن إسحاق فقد روى قصة قتله بإسنادين فيهما من الزيادات ما ليس في الذي سبق.
فروى بسنده إلى عبدالرحمن بن عوف قال: كان أمية بن خلف لي صديقاً بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن، فكان يلقاني إذا نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟ قال: فأقول: نعم.
قال: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به، أما أنت فلا تجبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف، قال: وكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه. قال: فقلت: يا أبا علي، اجعل ما شئت. قال: فأنت عبد الإله. قال: قلت: نعم، قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الإله، فأجيبه، فأتحدث معه، حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع ابنه علي، وهو آخذ بيده، قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا أحملها، فلما رآني قال: يا عبد عمرو، فلم أجبه، فقال: يا عبد الإله، فقلت: نعم، قال: هل لك فيّ، فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال: قلت: نعم ها الله إذن. قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده وبيد ابنه، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ ثم خرجت أمشي بهما[5].
وفي رواية أخرى عند ابن إسحاق، وهي تتمة لهذه القصة: قال لي أمية بن خلف - وأنا بينه وبين ابنه آخذاً بأيديهما -: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال: قلت حمزة، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء[6] مكة إذا حميت، فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا، أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: "أحد، أحد" قال: فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال: قلت أي بلال أبأسيري؟ قال: لا نجوت إن نجا، قال: قلت: أتسمع يا ابن السوداء؟ قال: لا نجوت إن نجا، قال: ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة[7]، وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط، قال: فقلت: انج بنفسك ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئاً، قال: فهبروهما[8] بأسيافهم حتى فرغوا منهما. قال: فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالاً ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري[9].
والأسير كما قرره أهل العلم، أمره إلى الإمام، إن شاء قتل، وإن شاء أفدى وإن شاء استرق، وإن شاء عفا عنه، وأما أسر أمية بن خلف فهو كغيره من سادات قريش الذين أسروا، وقد أسره عبد الرحمن بن عوف بعد المعركة، كما ورد أنه أخرجه عندما أتى المساء، وأما بلال إنما أراد التعجيل به طمعاً في قطع رأس الكفر.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|