دروس وعبر من سير الصحابة الكرام (9)
كان أبو بكرٍ - رضي الله عنه - حريصًا على أسرار الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فلم يَكُن ليُفْشِيَها لأحدٍ أبدًا، كما دلَّ على ذلك الحديثُ الصحيحُ الآتي:
عن عبداللهِ بن عمر - رضي الله عنهما - يُحَدِّثُ أن عمرَ بن الخطابِ، حين تَأَيَّمَتْ حفصةُ بنتُ عمرَ من خُنَيسِ بنِ حُذافةَ السَّهمِيِّ، وكان من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قد شَهِد بدرًا، وتوفِّي بالمدينة، قال عمرُ: فلَقِيتُ عثمان بن عفَّان، فعَرَضتُ عليهِ حفصةَ، فقلتُ: إن شِئتَ أنكحتُك حفصةَ بنت عمرَ، قال: سأَنظُر فِي أَمرِي، فلبِثتُ ليالِي، فقال: قد بَدَا لِي أن لا أتزوجَ يومِي هذا، قال عمرُ: فلَقِيتُ أبا بكرٍ، فقلتُ: إِن شِئتَ أنكحتُك حفصةَ بنتَ عمرَ، فصَمَت أبو بكرٍ، فلم يَرجِع إِليَّ شيئًا، فكنتُ عليهِ أوجدَ مِنِّي على عثمانَ، فلَبِثتُ ليالِي، ثم خَطَبها رسول الله - صلى الله عليهِ وسلم - فأنكحتُها إيَّاه، فلَقِينِي أبو بكرٍ، فقال: لعلَّك وجدتَ عليَّ حين عرضتَ عليَّ حفصةَ فلم أَرجِع إِليك؟ قلتُ: نعم، قال: فإنه لم يَمنَعنِي أن أَرجِع إِليك فِيما عرضتَ، إِلا أنِّي قد عَلِمتُ أن رسول اللهِ - صلى الله عليهِ وسلم - قد ذَكَرها، ولم أَكُن لأُفشِيَ سرَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولو تَرَكها لقَبِلتُها"[1].
أقولُ: ما أسعدَ هذا المجتمعَ الذي بناه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وسار على نهجِه الصحبُ الكرام!
مجتمعٌ يَحْرِص الأبُ فيه على سعادة أبنائه وبناته؛ فهو يَسعَى لبنتِه التي تَأيَّمتْ بزوجٍ ممتاز، كما فعل عمر - رضي الله عنه - ومَن مثلُ هؤلاءِ، الذين عَرَض عليهم عمرُ بنتَه حفصةَ - رضي الله عنهم جميعًا؟!
ولما عَرَضها على أبي بكرٍ لم يُجِبْه بشيءٍ، لا بالقبول ولا بالاعتذار؛ لأنه عَلِم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرها، فلم يَكُن ليُفشِيَ ذلك السرَّ.
قال الشيخ محمد الخضري - رحمه الله - بعد أن عرض أخبار الردة، والقضاء عليها[2]:
"وإلى هنا انتهتْ أخبارُ أهلِ الردَّة، ومنها يَفهَم المسلمون الذين يُرِيدون الاقتداءَ بسَلَفِهم الصالح: أن المؤمنَ لا يَنبغِي أن يَهِنَ مهما كَثُرَت أعداؤه؛ لأن المسلمين لا يُغْلَبون من قلَّة، ولا يُخْذَلون إلا من اتِّباع الهوى، وحيادِهم عن الصراط السَّوِي.
هذا أبو بكر - رضي الله عنه - أوَّلُ خليفة للمسلمين، كان العرب كلُّهم أعداءه، فصار هو ومَن معه كالشَّعرَة البيضاءِ في الثَّورِ الأَدْهم، فلم يَعُقْه ذلك عن إعزازِ دين الله، وقتال مَن كفر بالله بمن معه من المسلمين، بل وَثِق بوعدِ الله، حيث قال: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].
فجازاه الله على ذلك: بالنصر العظيم، والفتحِ المبين، ودانتْ له قبائلُ العرب، فهكذا يكون الإسلام والإيمان".
أقولُ: هذا جانبٌ من جوانبِ عظمةِ هذا الرجلِ العظيم - رضي الله عنه وأرضاه - لولا أن الله أَكرَم هذه الأمةَ به، بل الإنسانية كلها، لاندَثَر الإسلامُ وقُضِي عليه.
فرَضِي الله عن أبي بكرٍ، ما أعظمَه من خليفة! وما أَنْجَحه من قائد! وما أَصدَقه من مؤمن!
أقولُ: ما أشبهَ الليلةَ بالبارِحة! إننا نحن اليوم في القرن الخامسَ عشرَ الهجري لَنَرى أن الإسلام والمسلمين مستهدفانِ من قُوَى الأرض: من أمريكا، وأوربا، ومن المجوس في الهند، ومن الشُّيُوعيين في الصين، ومن الصَّفَوِيين الفرسِ الذين ينكِّلون بالناس قتلاً وإقصاءً وعدوانًا على دينِهم وقِيَمهم، ومن الطواغيت الذين يَحكُمون بلادَ المسلمين بالحديد والنار، ومن اليهود الذين يَعتَمِدون على النصارى، قال الله تعالى يُخَاطِب المؤمنين - وقوله الصدق -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [المائدة: 51، 52]، وليس للمسلمينَ إلا أن يَرجِعوا إلى الله، ويَعمَلوا بدينِه، ويتَعَاوَنوا على البِرِّ والتقوى.
إنهم إن فَعَلوا ذلك، انتَصَروا كما انتَصَر المسلمون أيامَ سيِّدنا أبي بكرٍ - رضي الله عنه وأرضاه.
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]، وقال سبحانه: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|